استجاب ابن الرومي لأحداث عصره المختلفة وشارك فيها من خلال رصده لها وتعبيره عن مشاعره تجاهها، وهي مشاعر غير صادقة أملتها طبيعة مهنته بوصفه شاعراً مداحاً يعيش على مهنة الشعر وما فيها من مديح وتهانٍ ورثاء؛ فقد شارك في أحداث عصره مهنئاً بالخلافة وبالوزارة وبولاية العهد، وبالقدوم من السفر، والشفاء من المرض، وبناء الدُّور، وبالأعياد المختلفة، وبالزفاف والولادة والخِتان، وأشاد بالأعمال الإيجابية للخلفاء ووزرائهم وقوادهم، كالقضاء على الخارجين على الخلافة، والانتصار على الروم واستعادة ما اغتصبوه من بلاد المسلمين، والإصلاحات الإدارية والاقتصادية، كما رثى من مات من أقرباء الخلفاء والوزراء وغيرهم. ([1])
والشعر الذي قاله في هذه المناسبات شعر ضعيف القيمة والأهمية، لأن ابن الرومي هدف من ورائه إلى التكسب والمجاملة، ولم ينطلق فيه من ثوابت أخلاقية أو من مشاعر صادقة، كما يغلب عليه التكلف والتكرار والإطالة.
لكن ابن الرومي وقف موقفاً أخلاقياً صادقاً من محنة تعرضت لها ديار المسلمين، وتأذى منها الناس جميعاً، هي ثورة الزَّنج على الخلافة العباسية سنة خمس وخمسين ومئتين للهجرة، وما تبع تلك الثورة من سفك للدماء ونهب للثروات وتخريب للبلدان وقطع للطريق، إلى أن استطاع الموفق ـ أخو الخليفة المعتمد ـ القضاء على ثورة الزنج قضاء تاماً سنة سبعين ومئتين للهجرة، بعد أن استمرت خمس عشرة سنة، وذهب فيها خلقٌ كثير، عدا ما تهدم من بلدان، وما دُمر من زروع، وما هلك من مواشٍ، كما يقول المؤرخ الطبري ([2]).
وقد تأثر ابن الرومي كثيراً لما أصاب الناس ولما أصاب مدينة البصرة من خراب، وصوّر ما فعله الزنج بالناس من تعذيب وإذلال، وما ألحقوه بالبصرة من تخريب في قصيدة طويلة هي من أجمل ما قيل في رثاء البلدان، لأن ابن الرومي رثاها من خلال إحساسه بالفاجعة التي أصابتها وأصابت أهلها، ومن خلال خوفه من الشر والموت والدمار.
وقد صور في هذه القصيدة خراب المدينة وتشرد أهلها، وما لحقهم من شر، وتأسّى على تلك المدينة العظيمة وتذكر ماضيها الزاهر:
ذاد عن مُقْلَتي لذيذَ المنامِ شُغْلُها عنه بالدموعِ السِّجَامِ
أيّ نومٍ مِنْ بعدِ ما حَلَّ بالبَصْـ ـرَةِ مِنْ تِلْكُمُ الهَنَاتِ العِظام؟
أيّ نومٍ من بعدِ ما انْتَهَكَ الزَّنْـ ـجُ جِهاراً مَحَارِمَ الإسلام؟
وينتقل إلى الحديث عما أصاب الناس على أيدي الزنج من قتل وتشريد، ويفصّل في كل مشهد على عادته في التفصيل؛ فقد باغت الزنج أهل البصرة وهم نيام، وأعملوا فيهم السيف، ولم يراعوا كبيراً ولا صغيراً، ولا رجلاً ولا امرأة، بل إنهم بالغوا في إلحاق الأذى بالناس؛ فاغتصبوا العذارى علانية، وفضحوا النساء المصونات المحجبات، وفرقوا بين أفراد الأسرة الواحدة بين قتل وسَبْيِ واغتصاب ([3]):
ومن هنا يكون مديحه للموفق عرفاناً بالفضل وإحقافاً للحق، وليس مديح مجاملة أو تكسب، فقد رأى ابن الرومي في الموفق فارساً مغواراً لا يخاف الأعداء مهما بلغوا من قوة، وهو رجل ترك نعيم العيش ورغده والخمر والنساء لغيره، وسَمَتْ هِمَّتُهُ إلى قيادة الجيش وإعداده للفتك بأعداء الدين، لذا انتصر عليهم وشتت شملهم. وإسرافُه في الشجاعة والفتك بخصومه لا يقل عن إسرافه في إنفاق المال على الشعراء وغيرهم. وقد كان الموفق كما قال ابن الرومي تماماً؛ فارساً مغواراً حمل هَمَّ الخلافة، واستطاع أن يقضي على ثورة الزنج وعلى تسلط القواد الأتراك، فلم يجرؤوا على ارتكاب المظالم والاستبداد بالسلطة ما دام حياً ([4]):
2 ـ بروز ثقافة العصر في شعره:
تثقف ابن الرومي بثقافات عصره المختلفة، فلسفية وغير فلسفية، وبرع فيها، ولاسيما الاعتزال، وأغلب الظن أنه لم يكن معتزلياً، لكننا لا نستطيع إنكار معرفته بالاعتزال وتمكّنه من أدواته ومادته ومنهجه، لأنه لون من ألوان الفكر الخصب. والمعتزلةَ أصحاب فكر حر مستنير منفتح على كل الثقافات العربية والأجنبية ولاسيما اليونانية، لأنهم تسلحوا بتلك الثقافات للرد على أصحاب النحل والأديان الوضعية والمُلْحِدَةِ والزنادقة. وقد بلغ ابن الرومي من تلك الثقافات الغاية حتى قيل: إن الشعر كان أقل أدواته. وكان لابد لتلك الثقافة من أن تظهر في شعره، وتتجلى فيما يلي:
آ ـ الخصب في المعاني:
¥