في شعر ابن الرومي معانٍ كثيرة جداً، غنية وعميقة، تدل على تمكنه من ناصية الفلسفة والمنطق في عصره. وهذه السمة لم ينفرد بها ابن الرومي عن الشعراء في تاريخ الأدب العربي، فقد سبقه أبو تمام (231هـ)، وجاء من بعده أبو العلاء المعري (449هـ)، لكن ابن الرومي زاد كثيراً على أبي تمام ـ وإن كان متمكناً مثله من شاعريته ـ ولم يسمح للفلسفة أن تطغى على شعره وتفسده، بل استطاع أن يقدم الفلسفة من خلال الفن، على عكس المعري الذي لم يستطع تقديم الفلسفة من خلال الفن، فبدت نابية قبيحة، لأنها جاءت على حساب الفن الشعري. لكن ابن الرومي لم يستطع أن يقدم الفلسفة والمنطق دائماً في إهاب الفن، بل إنه كان يقع أحياناً فريسة للمعنى الفلسفي من غير أن يقدر على تذليله لفنه، فيبدو المعنى نابياً وبعيداً عن روح الشعر. من ذلك قوله يمدح:
إذا صَبَتْ زُهْرَتُهُ صَبْوَةً قال لها هِرْمِسُهُ هَنْدِسِ
وإن عَدَا هِرْمِسُهُ حَدَّهُ قالت له زُهْرِتُهُ نَفِّس ([5])
((والزُّهْرَةُ هي رَبّةُ الجمال واللهو، وهِرْمِس هو اسم عُطارِد عند الفُرْس وهو رَبُّ الكتابة والحكمة ... يعني أن ممدوحه يميل مع اللهو والجمال فتهيبُ به الحكمة والمعرفة، ويُرهق نفسه بهذه فتدعوه الزُّهرَةُ إلى التنفيس)) ([6]).
وهذا المعنى صعب، ويبدو التكلف واضحاً فيه، لكن ابن الرومي آثر أن يقدم ذلك المعنى البسيط تقديماً فلسفياً إظهاراً للمقدرة وإثباتاً للشاعرية والمعرفة بالفلسفة، وإن جاء كل ذلك على حساب الفن.
أو كقوله يعاتب ممدوحاً آخر عليه بالعطاء الذي كان قد وعده به:
كنتَ مِمَّنْ يَرى التَّشَيُّعَ لكنْ مِلْتَ في حاجتي إلى الإرْجاءِ ([7])
يريد أن يقول لممدوحه إنك تنكرت لأصدقائك وأرجأت حاجتي لديك فلم تقضها لي، لكنه عبّر عن هذا المعنى من خلال مصطلحين سياسيين دينيين، أولهما مصطلح التشيع: ويعني تأييد أبناء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأحفاده في حقهم في خلافة المسلمين، لم يكفروا أحداً من أهل السنة والشيعة وغيرهم، وإنما أرجئوا الأمر كله إلى الله لينظر فيه.
أو كقوله في مصطلحي الجبر والاختيار في معرض معاتبته لأحد ممدوحيه على تأخره في عطاء كان قد وعده به:
لَئِنْ خَيَّبْتَني ورَفَدتَ غيري لقد صَدَّقْتَ عندي قَوْلَ (جَهْمِ)
ألا لا فِعْلُ حَيٍّ باخْتِيارٍ متى خَيَّبْتَني لكن بِحَتْمِ ([8])
فَجَهْمُ المذكور هو جَهْمُ بن صَفْوانْ (128هـ) ـ كان يقول: إن الإنسان مجبر في كل أفعاله، وليس حر الإرادة في فعل ما يريد، يريد ابن الرومي أن يقول لممدوحه: إنني سأهجوك مُجْبَراً على هجائك على مذهب جهم هذا لأنك حرمتني وأعطيت غيري.
وابن الرومي لا يقبل بعرض المعنى وتقديمه بلا تعليل، لأن التعليل عنده جزء مهم من أجزاء توضيح المعنى؛ فقد تكلم الشعراء ـ قبل ابن الرومي وبعده ـ على الصداقة ورأوا أن الصديق قد يتحول إلى عدو، لذا يجب الحذر من الصديق أضعاف الحذر من العدو، لكن ابن الرومي لم يرضَ بتقديم هذا المعنى كما يقدمه غيره، بل لجأ إلى التعليل والقياس، فقاس الصديق على الطعام، والغدر على الداء، فوجد أن الداء يكون خطيراً عندما يكون داخل الطعام لا نراه، لأننا لو رأيناه ما أكلناه، وكذلك الصديق الذي يتحول إلى عدو فيأتي خطره من حيث لا نتوقع الخطر:
عَدُوَّكَ مِنْ صديقِكَ مُسْتَفادٌ فلا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحابِ
فإنَّ الداءَ أكثرُ ما تَراه يَحُولُ مِنَ الطعامِ أو الشَّراب
ثم يتكلم عن كثرة الأصدقاء، ويرى أن كثرتهم لا تغني شيئاً، وأن الخير في القليل منهم. وهذا المعنى مألوف، لكن ابن الرومي لا يرضى به على هذه الصورة، بل يعلله بقوله: إن البحر على اتساعه وعظمه مالح لا ينفع العطشان، على عكس القطرة من الماء الصافي العذب:
ولو كان الكثيرُ يَطِيْبُ كانت مُصاحَبَةُ الكثيرِ مِنَ الصَّوابِ
فَدَعْ عنكَ الكثيرَ فكم كثيرٍ يُعافُ وكم قليلٍ مُسْتَطاب
وما اللُّجَجُ المِلاحُ بِمُرْوِياتٍ وتَلْقَى الرِّيَّ في النُّطَفِ العّذاب ([9])
¥