تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وثقافته الواسعة المتنوعة، وقدرته على الجدل والاحتجاج جعلتاه يقف عند المعنى الواحد المألوف فيفصل القول فيه مادحاً، ثم يذمه مفصلاً في ذكر عيوبه، دون أن يخلَّ بالمعنى في كلتا الحالين. وهذا الصنيع من ابن الرومي لم يكن مقصوراً عليه وحده، فقد سبقه إليه المعتزلة والمتكلمون ولاسيما الجاحظ، حتى إن ـ البَيْهَقِيَّ ـ أحد معاصري ابن الرومي ـ ألف كتاباً في ذلك عنوانه: المحاسن والمساوئ، ذكر فيه أشياء كثيرة، ممدوحة حيناً ومذمومة حيناً آخر ـ. وقد عُرف عن ابن الرومي هذا الصنيع.

فالحقد داء يكرهه كل الناس ويذمونه كما ذمه ابن الرومي، لكن أحداً لم يمدح الحقد ويبين مزاياه، مثلما فعل ابن الرومي؛ فهو يرى أن الحقد توأم الشكر، ولكلٍّ موضعٌ، فهنالك أشخاص يستحقون أن نحقد عليهم لإساءتهم للناس، مثلما يستحق آخرون الشكر لإحسانهم إليهم، لأن المسألة مسألة دَيْنٍ واستحقاق، ثم يضيف إلى هذا المعنى معنى آخر أكثر عمقاً وجِدَّةً من سابقه، فيرى أن الحقد محمود لأنه يوصل صاحبه إلى ثأره، ولولا الحقد لنسي صاحب الثأر ثأره:

وما الحِقْدُ إلاَّ تَوْأَمُ الشُّكْرِ في الفتى وبعضُ السَّجايا يَنْتَسِبْنَ إلى بعضِ

فحيثُ تَرَى حِقْداً على ذي إساءَةٍ فَثَمَّ تَرَى شُكْراً على حَسَنِ القَرْض

ولا عَيْبَ أنْ تُجْزَى القُروضُ بمثلِها بل العَيْبُ أنْ تَدَّانَ دَيْناً فلا تَقْضي

وخَيْرُ سَجِيَّاتِ الرجالِ سَجيَّةٌ توفّيكَ ما تُسْدي مِنَ القَرْض بالقَرض

ولولا الحُقودُ المُسْتَكِنَّاتُ لم يَكُنْ لِيَنْقُضَ وِتْراً آخِرَ الدهرِ ذو نَقْض ([10])

ب ـ تقصي المعاني:

قادته ثقافته الواسعة وقدرته على الجدل والحجاج إلى تقصي المعاني واعتصارها اعتصاراً شديداً لا يبقى فيه زيادة لمستزيد، مع المحافظة على الوحدة العضوية فيها، فكل بيت يرتبط ـ غالباً ـ بأخيه من قبل ومن بعد، لأن المعنى لا يكتمل إلا إذا قرأنا ما قبله وما بعده، فالمعاني عنده متولد بعضها من بعض، ولا سبيل إلى الفصل بينها في كثير من الأحيان. وهذا سبب من أهم أسباب إطالة القصائد في شعره.

وهذا التقصي واضح كل الوضوح في شعره، لا تكاد تخلو قصيدة منه، فالشيب مثلاً موضوع تكلم فيه الشعراء كثيراً منذ الجاهلية، لكن ابن الرومي لم يترك معنى يمكن أن يقال في الشباب والمشيب إلا أتى به، من خلال تفصيل زائد يعتصر فيه المعنى ولا يترك فيه شيئاً. من ذلك قوله في رثاء شبابه، وقد جعله مقدمة لقصيدة مدحية من مئة وخمسة وسبعين بيتاً، منها سبعون بيتاً في رثاء الشباب والتفجع عليه، وفي هذه الأبيات السبعين يكرر عبارة (يُذَكِّرني الشبابَ ... ) ثماني مرات؛ فمرة يذَكَره الشبابَ عطشُه الطويل إلى رضاب النساء الجميلات فيفصّل القول في ذلك، ومرة أخرى يذكّره الشبابَ انصرافُ النساء عنه لشيبه، ومرة ثالثة يذكّره الشبابَ ما فعلته أحداق النساء بقلبه، وهكذا قبل أن يصل إلى المديح: ([11])

يُذَكِّرُني الشَّبابَ صَدىً طويلٌ إلى بَرَدِ الثَّنايا والرُّضابِ

وشُحُّ الغانياتِ عليه إلا عن ابنِ شَبيْبَةٍ جَوْنِ الغُراب

فإن سَقَّيْنَني صَرَّدْنَ شُرْبي ولم يَكُ عن هَوىً بلْ عنْ خِلاب

يذكرني الشبابَ هَوَانُ عَتَبْي وصَدُّ الغانياتِ لدى عِتابي

لكن ابن الرومي لم يكن موفقاً في تقصي المعاني وتفصيلها وتقليبها على وجوهها دائماً، بل إنه في كثير من الأحيان يقع في التكلف والرّكَّة وهو يفصّل في المعنى الواحد. من ذلك التقصي غير الموفق قوله في أحد ممدوحيه:

لكَ مَكْرٌ يَدِبُّ في القومِ أَخْفَى مِنْ دَبِيْبِ الغِذاءِ في الأعضاءِ

أو دبيبِ المَلالِ في مُسْتَهامَيْـ ـنِ إلى غايةٍ مِنَ البَغْضاء

أو مَسِيْرِ القضاءِ في ظُلَمِ الغَيْـ بِ إلى مَنْ يُريدُهُ بالتَّواء

أو سُرَى الشيبِ تحت لَيْلِ شبابٍ مُسْتَحِيْرٍ في لِمَّةٍ سَحْماء

دَبَّ فيها لها ومنها إليها فاكتستْ لَوْنَ رَثَّةٍ شَمْطاء ([12])

فهو يصف مكر ممدوحه بأنه خفي لا يشعر به أحد كدبيب الغذاء في أعضاء الجسد، لكنه لا يكتفي بهذا المعنى، بل يأتي بأربعة أبيات بعده يوضح فيها معنى المكر ويتفنن في تصويره، حتى إنه راح يلتمس التفصيل والتوضيح في حروف الجر أيضاً؛ فذكر الحروف (في واللام ومن وإلي) في شطر واحد، فماذا بقي من معنى المكر بعد أن اعتصره ابن الرومي هذا الاعتصار الشديد؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير