ثم يرى أن الروم أهل أمجاد وقوة وحكمة، وانه وقومه لا يرون وجوههم في المرايا كالنساء، وإنما يرونها في صفحات السيوف البيض القاطعة:
ونحن بنو اليونانِ قومٌ لنا حِجاً ومَجْدٌ وعِيْدانٌ صِلابُ المَعاجِمِ
وحِلْمٌ كأركانِ الجبالِ رَزانَةً وجَهْلٌ تَفادَى منه جِنُّ الصَّرائِم
وما تتراءى في المَرايا وجوهُنا بلى في صفاحِ المُرْهَفاتِ الصَّوارم ([22])
ثانياً: المؤثرات الشخصية (جسمه ونفسه):
وصف ابن الرومي جسمه ونفسه بكل ما فيهما من عيوب وأوجاع ومآخذ. وأسرف في ذلك الوصف حتى لم يستطع أحد من الشعراء غيره اللحاق به في هذا المجال، بل إن معظم شعره يمكن أن يحمل على هذا الوصف. وثمة نماذج شعرية كثيرة له في وصف جسده بما فيه من علل وعيوب، ونفسه بما فيها من مخاوف وأوهام وظنون، لكنني سأقف عند شاهد واحد هاهنا يصور فيه ابن الرومي جملة من المصائب التي نزلت به في جسده وفي نفسه، وهذه المصائب هي التي ركز عليها في شعره أكثر من غيرها، وفصل القول فيها. كقوله يمدح الوزير القاسم بن عبيد الله ويعاتبه، في قصيدة تتألف من مئتين وستة عشر بيتاً، ثلثاها في تصوير سوء حاله: ([23])
أنا مَولاكَ أنت أَعْتَقْتَ رِقّي بعدما خِفْتُ حالةً نَكْراءَ
فَعَلامَ انصرافُ وجهِكَ عني وتَنَاسيْكَ حاجتي إلْغاء
أنا عارٍ مِنْ كلِّ شيءٍ سوى فَضْـ لِكَ لا زلْتَ كِسْوَةً وغِطاء
أنا مَنْ خَفَّ واسْتَدَقَّ فما يُثْـ ـقِلُ أرضاً ولا يَسُدَّ فضاء
أنا لَيْثُ اللُّيوثِ نَفْساً وإنْ كُنْـ ـتُ بجسمي ضَئِيْلَةً رَقْشاء
لستُ باللُّقْطَةِ الخَسِيْسَةِ فاعرِف ليَ قَدْري واسألْ به الفُهَماء
أنا ذاك الذي سَقَتْهُ يَدُ السُّقْـ ـمِ كُؤوساً مِنَ المُرَارِ رِوَاء
ورأيتُ الحِمامَ في الصُّوَرِ الشُّنْـ ـعِ وكانتْ لولا القضاءُ قَضاء
ورَماهُ الزمانُ في شُقَّةِ النَّفْـ ـسِ فَأَصْمَى فُؤَادَهُ إصْماء
وابتلاهُ بالعُسْرِ في ذاكَ والوَحْـ ـشَةِ حتى أَمَلَّ منه البَلاء
وثكِلْتُ الشبابَ بعد رَضَاعٍ كان قبلَ الغِذاءِ قِدْماً غِذاء
كلُّ هذا لَقِيْتَهُ فَأَبَتْ نَفْـ ـِيَ إلاَّ تَعَزُّزاً لا اخْتِتاء
وأَرى ذِلَّتي تُرِيْكَ هَوَاني ودُنُوِّي يَزيدُني إقْصاء
إن هذه الأبيات تصور حقاً حال ابن الرومي تمام التصوير، وتعبر عما يحسه من هموم وعذاب في جسده وفي نفسه، وقد توجه بهذه الأبيات إلى ممدوحه الذي وصفه بأنه سيده ومالك أمره الذي سيقضي له حوائجه، ثم يشير إلى أن ضعف بنيته لا يؤثر في همته وشجاعة نفسه وإبائه، وأنه ذو أصل عريق، وليس لقيطاً لا يُعرف والدُه أو أصله، وهو الذي تكالبت عليه الأمراض والعلل حتى طحنت جسده، وهو يكره الأشكال القبيحة ويراها كالموت الذي يكرهه ولا يحب لقاءه، وهو فوق كل ذلك مُعْسِرٌ وحيد في حياته، فقدَ الشباب في سن مبكرة. لكن كل ما أصابه لم يجعل ممدوحه يَحِنُّ عليه أو يقدّر سوء حاله، بل ظن أن ما به من تذلل وخضوع له هو مِنْ هَوانِ نفسه، فما زاده ذلك التذلل إلاَّ إبعاداً له عن مجالسه وتنكراً له.
وهذه المعاني تصور ما أصاب ابن الرومي في حياته، وإن كان فيها بعض المبالغة، لكن هذه المبالغة تخفي خلفها حقيقة ما أصابه.
وقد أثرت هذه الأوضاع التي ذكرها ابن الرومي في شعره كثيراً، لكن تأثيرها لم يكن واحداً، بل أخذ منحنين اثنين؛ أولهما التعبير عن هذه الأوضاع تعبيراً حقيقياً من خلال مئات القصائد والمقطعات التي تدور في معظمها حول هذه المعاني، وثانيهما تجاوز هذه المعاني والبحث عن معانٍ مناقضة لها على سبيل التعويض، فادعى أشياء لم تكن فيه، وصور نفسه بصورة بعيدة عما هي عليه، كما حوّل ضعف بنيته إلى قوة مبالَغ فيها. ولم يقف عند هذا الحد بل أثرت أحواله الجسدية والنفسية في طبيعة شعره أيضاً.
وسأَفْصِل بين جسده ونفسه فصلاً مؤقتاً لأبحث ـ في كل قسم على حدة ـ عن المؤثرات التي أثرت فيهما، وعن المظاهر التي نتجت عن تلك المؤثرات. وإن كان هذا الفصل غير علمي، لأن كلاً من جسده ونفسه كان يستجيب للآخر، ويحركه، ويتحرك به.
1 ـ جسمه:
كان ابن الرومي ضعيف البنية، يُغَرْبِلُ في مشيته، ويستند على العصا في آخر أيامه، ضعيف البصر والسمع، يشكو من ضعف جنسي، ومن شيب غزا رأسه في سن الشباب، علاوة على نهمه الشديد إلى الطعام ([24]).
¥