وقد عبر عن هذه الأحوال بالصدق حيناً من خلال أشعار كثيرة، وبالادعاءات الكاذبة حيناً آخر ليخفي ضعفه، لكنه بادعاءاته تلك قدم لنا تحليلاً دقيقاً لنفسه وإن كان تحليلاً معكوساً، لكنه لا يقل أهمية عن الأشعار التي وصف فيها أحواله الجسدية والنفسية فمن بين ادعاءاته الكثيرة قوله يصف شجاعته وفروسيته وبطولاته، على الرغم مما عرف عن بنيته من ضعف واعتلال، وعن نفسه من جبن وخوف وتوهم ([25]):
وإني لَلَيْثٌ في الحروبِ مُظَفَّرٌ مُعَارٌ أَداةَ الهَصْرِ بالظَّفْرِ والعَضِّ
إذا ما هَزَزْتُ الرُّمْحَ يومَ كَريهةٍ لِجَمْعٍ فذاكَ الجَمْعُ أولُ مُنْفَضّ
تَضاءَلُ في عيني الجُموعُ لدى الوَغَى وإنْ هي جاءتْ بالقَضِيْضِ وبالقَضّ
وما ضَرْ بِيَ الأقْرانَ عند لقائِهمْ بِذَبّ ولا طَعْنِي هنالك بالوَخْض
فهو أسد في الحروب، مظفر دوماً، وسلاحه في انتصاره على الأعداء، كسرهم أظافره وأسنانه، وهو قادر على تفريق الجموع برمحه مهما كانت كبيرة وكثيرة العدد، وهو يهجم على أعدائهم ويضربهم، ولا ينتظر هجومهم عليه ليدافع عن نفسه. وهذا الافتخار مبني على الادعاء الكاذب على شاكلة كثير من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، وينسبون إلى أنفسهم أشياء ليست فيها. ولعل ابن الرومي أراد بهذه الأبيات أن يدفع عن نفسه تُهَمَ العجز والضعف والجبن التي كان يراها في نظرات معاصريه وغمزاتهم، ولعله أراد الخوض في موضوع الفخر بالشجاعة كما خاض فيه غيره من الشعراء.
وله قصيدة أخرى طويلة ضاع معظم أبياتها، ولم يبق منها إلا اثنان وعشرون بيتاً كلها على هذا النحو من الادعاءات الكاذبة بالقوة والشجاعة. ([26])
وفي موضع آخر في شعره يتحول ابن الرومي الجبان الذي يخاف مما لا يخيف إلى واعظ يعظ الناس بألا يجبنوا أو يخافوا، ويحضهم على الشجاعة والاستهانة بالنفس لأن العمر واحد والموت واحد، وأن الذي يخاف من الموت هو ناقص الإيمان، لاعتقاده أنه لن يُبْعَثَ من جديد بعد موته. وكل هذا ليظهر نفسه شجاعاً لا يخاف الموت، وأنه ليس جبانا ًكما يظن الناس:
لا تَجْبُنَنَّ لأنَّ النَّفْسَ واحدةٌ فإنما الموتُ أيضاً واحدٌ فَقَدِ
ما يَجْبُنُ المرءُ إلا وهْو مُعْتَقِدٌ أو مُشْفِقُ أنه إن مات لم يَعُد ([27])
وكان له شأن مهم مع أصحاب اللحى الطويلة، لأنه كان يكره إطالة اللحية، ويراها تعبيراً عن الحمق والنقص في صاحبها، وهذا أمر مألوف من شاعر ينفر من مظاهر القبح في كل شيء.
واللحية الطويلة الزائدة في طولها أو كثافة شعرها عن الحد أمر قبيح حقاً، لكن ابن الرومي في هجومه على أصحاب اللحى الطويلة كان يشعر بعقدة النقص تجاههم لأن لحيته هو كانت قصيرة، ولا سبيل إلى إطالتها، فلابد إذاً أن يقصروها هم. ومن هاهنا نستطيع أن نفهم سر هجومه على أصحاب اللحى الطويلة، لأن نصف شبر منها يكفي علامة على الرجولة كما يقول، فما الداعي إلى تلك الإطالة؟
أو فَقَصِّرْ منها فَحَسْبُكَ منها نِصْفُ شِبْرٍ علامةَ التذكيرِ ([28])
فالقضية لم تعد نفوراً من منظر قبيح فحسب، بل صارت تعويضاً نفسياً، وتعالياً على تهمة قد تُوجَّه إليه بسبب قصر لحيته، فبادر بالهجوم على الآخرين قبل أن يهاجموه هم، بل راح يُزَيِّنُ في أعينهم اللحية القصيرة، حتى لا يظن أحد منهم أن قِصَرَ لحيته عيبٌ فيه، بل لأنه هو يريدها أن تكون قصيرة، كالثعلب الذي قُطِعَ ذيلُه فلم يجد أمامه إلا أن يُزَيِّن ذلك الذيل القصير المقطوع في أعين الثعالب حتى يقطعوا أذياله مثله، لأنه ليس باستطاعته أن يعيد ذيله إلى ما كان عليه، أو كقولِهِ إن العِنَبَ حِصْرِمٌ حامض لأنه لم يستطع الوصول إلى كرمته.
وكان ابن الرومي نهماً إلى الطعام نهماً شديداً أفسد عليه صحته، حتى قيل: إن نهمه تسبب في هلاكه ([29]). وقد عبر عن هذا النهم تعبيرين مختلفين، وإن كان بينهما خيط دقيق واضح؛ فقد وصف شهوته الجامحة إلى الطعام ـ بمختلف صنوفه ـ من خلال كثير من القصائد والمقطعات، وتفنن في وصف أصنافه وأشكاله وطعومه وطرائق تحضيره ... ويضيق بنا المجال لو رحنا نتبع الأصناف التي ذكرها منه في شعره، لكنه شهر بحبه للسمك ([30]). من ذلك قوله في قصيدة مدحية تتألف من اثنين وعشرين بيتاً، منها سبعة أبيات باهتة في المديح، والباقي في ذكر السمك:
¥