تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وابن الرومي رجل يخاف كل شيء مما لا يخيف، بل إنه يتوهم أشياء ثم يخافها، وأن يُعَبِّرَ عن خوفه شعراً فهذا شيء عادي ومألوف، لأنه في هذه الحال يصف ما يشعر به وصفاً صادقاً، لكن من غير العادي أن يتناسى ما قاله عن الخوف ولاسيما من السفر ـ هذا الخوف الذي جعله يحرم نفسه عطاء الممدوح لأنه خاف السفر إليه وبقي في بيته ـ ويدعي ادعاءات تخالف طبعه وما عرف عنه ليدفع عن نفسه تهمة الخوف، وليريَ الناس أنه شجاع لا يخاف الأسفار في سبيل الوصول إلى الأمجاد، في حين ينام أصحاب الهمم الضعيفة عنها ([8]):

وإني لَرَحَّالُ المَطِيِّ على الوَنَى قليلُ مُبالاةٍ بِإنْضاءِ ما أُنْضي

أبيعُ بَمكْروهِ السُّرى لذَّةَ الكَرى إذا رَوِيَتْ عينُ الدَّثُوْرِ مِنَ الغَمْض

أشُدُّ لنيلِ المجدِ رَحْلِي مُشَمَّراً وهل بعده شيءٌ أشُدُّ له غَرْضي

وابن الرومي كان يخاف كثيراً من الحكام ولاسيما القواد والأتراك، فلم يكن يتجرأ على هجائهم، وإن عُزلوا من مناصبهم خوفاً من أن يعودوا إليها مرة ثانية. وهذا الموقف تعبير صادق عن خوفه وتوجسه الشر في غده، وإن كان هذا الشر بعيد الحصول أو مستحيلاً، لكن من الغريب أن يبلغ الخوف حداً بابن الرومي يجعله يتغاضى عن مظالم القواد الترك ومفاسدهم التي أشار إليها كل من تحدث عنهم، بل يتزلف إليهم ويمتدحهم مشيراً إلى شجاعتهم في الحروب، وأنهم كالأسود المتعطشة لدماء فرائسها، يحاربون أعداءهم بكل قوة وبكل سلاح ماض، فيقضون عليهم قضاء تاماً، وهم أيضاً دهاة وذوو حلوم، فإن كنت تجهلهم فاسأل عنهم أعداءهم تعرفْ ما فعلوه بهم وبديارهم ([9]).

وكان ابن الرومي يخاف الموت خوفاً شديداً ملك عليه نفسه، لكثرة مَنْ وَدَّع من أحباب وأهل وأصحاب، حتى أيقن أخيراً أنه مخصوص بالمصائب، وأن الموت يقصده دون غيره، لذا أجاد إجادة عظيمة في المراثي، فهي الموضوع الأقرب إلى نفسه البائسة التي طحنتها المصائب؛ فقدْ فَقَدَ كلَّ من يحب في الدنيا؛ أباه وخاله وخالته وشقيقه وأولاده الثلاثة وزوجته وأمه. ثم فقد المغنية (بستان) التي كان يأنس بها ويرتاح إليها، وفقد صحته وشبابه. وهذا الشعور العميق بالفَقْدِ، وما جُبلت عليه نفسه من مخاوف وتَطُّير، وما لحقه من مصائب في ممتلكاته جعل مشاعره ترق وتصفو ليحلق عالياً في فن الرثاء.

ولعل أهم موضوع من موضوعات الرثاء التي شغلته وملأت ديوانه بنغمات حزينة رحيلُ الشباب عنه في سن مبكرة قبل أوان الرحيل عند أقرانه، فقد أصابه الشيب وهو في الحادية والعشرين من عمره كما يقول:

فَظُلْمُ الليالي أنهن أَشَبْنَني لعشرينَ يَحْدُوهنّ حَوْلٌ مُجَرَّمُ ([10])

ويقيم ابن الرومي مآتم على شبابه الذي رحل عنه فرحلت معه البشاشة والسعادة والهناء، لذا يطلب من الناس أن يعزّوه به. ويتفنن في عرض حزنه على الشباب وبيان أثر رحيله في نفسه. ولا أبالغ إذا قلت إن بكاءه على شبابه أخذ ثلث ديوانه، وأخذت الشكوى الثلث الآخر، وتوزع الثلث الأخير على هجائه وما تبقى من مديحه التي توجه بها إلى الممدوحين، بداعٍ وبغير داعٍ، وقد يقدم به لقصائده في المديح، وقد يجعله غرضاً مستقلاً يُدِير حوله القصائد الطويلة. ولا أعتقد أنه ترك معنى يمكن أن يقال في رثاء الشباب إلا أتى به، لذا يتعذر حصر معانيه فيه، ولكن يمكن أن نشير إلى أبرزها؛ فالشباب عنده حياة وحيوية ونشاط وقوة، واقتناص ملذات، وانغماس في الشهوات من شرب للخمر وسماع للغناء ومصاحبة للنساء. الشباب باختصار يعني عنده دوام الحياة السعيدة بشهواتها وملذاتها، لذا كان هجومه عنيفاً على الشيب لأنه حرمه كل تلك الشهوات واللذائذ، ولاسيما النساء، فالمرأة تكون حيث الشباب والغنى والقوة، وكل هذه الأشياء سُلِبَ منه بالمشيب في غير أوانه، والمصائب التي حلت بممتلكاته، وبالعلل والأمراض التي تكالبت على جسده. بل إن مصيبة فقد الشباب لا تعادلها مصيبة. ولو أنه رُزِئ به فحسب لكفاه:

ولو لم يُصَبْ إلا بِشَرْخِ شبابِهِ لكانَ قدِ اسْتَوْفَى جميعَ المصائبِ ([11])

وزاد في حجم حزنه على الشباب إحساسه بدنو الأجل، لأن الشيب نذير سوء إذا عَدَدْنا الموت سوءاً كما كان يَعُدُّه ابن الرومي، فعندئذ نستطيع أن نفهم تمام الفهم سر حزنه الشديد على الشباب، وكثرة ما قاله فيه من أشعار.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير