ثم يهجوه هجاء فاحشاً، ولم يكتف بذلك، بل حاول أن يدفع عن نفسه تُهمَاً كثيرة، كضيق الصدر والتبرم بالناس وسرعة الغضب، وكأنه يريد أن يتعالى على ما فيه من عيوب نفسية، أو أن يعوض تلك النقائص والعيوب بفضائل يمتدحها الناس في كل الأزمنة والأمكنة؛ فقد ادعى أنه ذو حلم وصبر وأناةٍ، على الرغم مما سيُلْحِقُهُ صبرُه به من أضرار في جسده، وأن صدره واسع لا يضيق بالناس وإن ضاقت صدورهم وأخلاقهم هم، لكنه سيؤذي الآخرين ويجهل عليهم إن هم أساءوا إليه: ([4])
وإني لَذو حِلْمٍ وجَهْلٍ وراءَه فَمَنْ كان مُخْتَلاً رَضِيْتُ له حَمْضي
وفيَّ أنَاةٌ لا تُفاتُ بفُرْصةٍ لها سِيْرَةٌ مَوْضُوعَةٌ وهْي كالرَّكْض
وإني لَصَبّارٌ على الحقِّ يَعْتَري ولو كان في صَبْري له ما بَرَى نَحْضي
إذا ضاقتِ الأخلاقُ أَفْضَتْ خَلائِقي إلى سَعَةٍ مِثلي إلى مِثِلها يُفْضي
وهذه ادعاءات باطلة لا تستند إلى حقائق، بل إن ما عرف عن ابن الرومي في هذا المجال ينقضها نقضاً.
وابن الرومي ـ كما مرّ بنا ـ رجلٌ يحب الحياة مادامت تحقق له ما يريد من لذائذ، فإن ضَنَّتْ عليه بها سخط عليها من غير أن يكرهها، لأنه يؤمّل أن تصفو له بعد عبوسها، وهو رجل يخاف من الأشياء التي لا تخيف خوفاً مَرَضِيّاً، يجعله يتوجَّس الشر في كل شيء غامض، ولا يحسن الظن به.
وقد تجلّى حبه للحياة في الإقبال على ملذاتها والعَبِّ من أطايبها ما شاء له جسده العليل أن يعب منها، لكنه لم يكن يتأمل الحياة تأملاً فلسفياً ـ وهو القادر على هذا التأمل بحكم ثقافته الفلسفية الواسعة ـ بل كان ينظر إليها بعينه غالباً، ويسجل دقائقها تسجيلاً بعيداً عن مشاعره؛ فالخباز الذي يرقّق عجينة الخبز بيديه بسرعة يذكّره بمشهد عادي يعرفه الجميع، وهو مشهد رمي الحجر في الماء، حيث تتوسع الدائرة التي يسقط فيها الحجر بسرعة، فتشبه بذلك رُقاقَةَ العجين وهي كرة في يد الخباز عندما تتحول بسرعة إلى قرص يكبر ويستدير بسرعة لمهارة ذلك الخباز: ([5])
ما أَنْسَ لا أنسَ خبازاً مررتُ به يَدْحُوْ الرُّقَاقَةَ وشْكَ اللْمْحِ بالبَصَرِ
ما بين رُؤْيَتِها في كَفِّهِ كُرَةً وبين رُؤْيَتِها قَوْراءَ كالقَمر
إلا بِمِقْدارِ ما تَنْداحُ دائِرَةٌ في صَفْحَةِ الماءِ يُرْمَى فيه بالحَجَر
أو كقوله يصف قالي الزَّلابِيَةِ (نوع من أنواع العجين المَبْسُوْسِ بالسَّمن والسُّكِّر): ([6])
ومُسْتَقِرٌ على كُرْسِيِّهِ تَعِبٍ رُوْحي الفِداءُ له مِنْ مُنْصَبٍ نَصِبِ
رأيتُه سَحرَاً يَقْلي زَلابيَةً في رِقَّةِ القِشْرِ والتَّجْوِيْفُ كالقَصَب
كأنما زَيْتُهُ المَغْلِيُّ حين بَدا كالكِيْمِياءِ التي قالوا ولم تُصَب
يُلْقِي العَجِيْنَ لُجَيْنَاً مِنْ أَنَامِلِهِ فَيَسْتحِيْلُ شَبابِيْطاً مِنَ الذَّهب
فقالي الزلابية متعب يقوم بعمله في وقت مبكر، ثم يصف ابن الرومي رقة الزلابية ولونها الأبيض الفضي قبل أن توضع في الزيت المغلي الذي سيحول لونها الفضي ـ بعد أن تنضج ـ إلى لون الذهب، والعجينَ إلى ما يشبه أسماك الشَّبوط ذات الجسم العريض اللين الملمس، وكأن ذلك الزيت قادر على تحويل الأشياء من حال إلى حال كالكيمياء التي تحول المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة.
وابن الرومي في هذين الشاهدين، لا يلتفت إلى مشاعره تجاه المشهد الذي يصوره، لأنه لا يريد الامتزاج به أو التعبير عنه ممزوجاً بمشاعره، بل يسجله بعينه اللاقطة لخفايا الأشياء، وكأنه مصور يحمل آلة تصويره، فيصور ما يعجبه أو يستوقفه من مناظر، من غير أن نراه فيها أو نرى ظلاله على الأقل، فمحاكاته هاهنا لظاهر الشيء وليس فيها جوهر فكري، فإذا كانت "تَبْهَرُ العين فإنها لا تجاوزها إلى القلب أو العقل" ([7])،وإن كان الالتفات إلى هذه الموضوعات تجديداً حقيقياً في وظيفة الشعر، بعيداً عن القصور وما يجري فيها، أو ما تقتضيه من ضروب الشعر الرسمي.
¥