فظل صِحابي ناعِمينَ بِبُؤْسِها وظلتْ على حَوْضَ المنيّةِ شُرَّعا
فكم ظاعِنٍ منهن مُزْمِعِ رِحلةٍ قَصَرْنا نَوَاهُ دونَ ما كان أَزْمَعا
وكم قادمٍ منهم مُرْتادِ مَنْزِلٍ أَناخَ به منّا مُنِيْخٌ فَجَعْجَعا
مُتاحٌ لِرامِيْها الرَّمايا كأنما دَعاها له داعي المنايا فَأَسْمَعا
تَؤُوْبُ بها قد أَمْتَعَتْكَ وغادرتْ مِنَ الطيرِ مَفْجُوعاً به ومُفَجَّعا
لها عَوْلَةٌ أَوْلى بها ما تُصِيْبُهُ وأَجْدَرُ بالإغْوالِ مَنْ كان مُوْجَعا
وما ذاكَ إلا زَجْرُها لِبَناتِها مَخافَةَ أنْ يَذْهَبْنَ في الجوِّ ضُيَّعا ([13])
وفي هذا المشهد البديع يصف ابن الرومي الطيور في السماء سعيدة بحريتها مع أقرانها، لكن الجوع يعمي أبصارها فلا تنتبه لشباك الصياد وأسلحته التي أخفاها بين الحب الذي نثره على الأرض، فهوت تلك الطيور المسكينة لتأكل، وما دَرَتْ أن الهلاك في الطعام، أما من أحس بالخطر ولم يقع في الشرك وطار فقد تناولته رماح الصيادين وسهامهم.
واستبشر الصيادون بهذا الصيد الوفير وسعدوا به فيما كان الطيور تتجرع كؤوس الموت، ثم يتأمل ابن الرومي في فعل أصحابه بالطيور فيرى أنه ظلمٌ لها وغدرٌ بها، لأنهم حالوا بينها وبين آمالها، وكأنها أهداف مشرعة للصياد يرميها متى شاء، ويميتها متى شاء. وعاد الصيادون بما صادوا من الطيور وهم سعداء، فيما كانت تلك الطيور المسكينة تبكي بصوت مرتفع على أقرانها، وما منهم إلا من فقد عزيزاً منها، وكل ذلك لأن الطيور الصغيرة التي سقطت في الفخ لم تستمع لنصائح أمهاتها في عدم الابتعاد عن السرب، حتى لا يضعن في الجو الفسيح.
وابن الرومي في هذه القصيدة هو زهرة النوار التي فقدت الشمس ففقدت يوماً لن يعود، وشبابُه هو الشمس التي أضاءت حياته لفترة قصيرة كما تضيء الدنيا في النهار، لكنها سرعان ما تغيب ليحل الظلام من جديد، والطائرُ الصريع هو شباب ابن الرومي أيضاً، والناس سعداء بشبابهم وهو تعيس برحيله عنه، كما سَعِدَ الصيادون وشَقِيَتِ الطيور بوقوعها فريسة لهم.
لكن إجادته العظمى في المراثي تجلت في قصيدته التي رثى فيها ابنه الأوسط محمداً، وقد مات هذا الابن وهو صغير لم يتجاوز سن الطفولة بسبب مرض أصابه، لم يشر ابن الرومي إلى نوعه، وإن أشار إلى بعض أعراضه، كالصُّفرة والنزف.
وابن الرومي في هذه القصيدة يحلق عالياً في سماء فن الرثاء، ويثبت أن ما أصابه من مصائب في أهله ونفسه وممتلكاته كان له عظيم الأثر في تلك الإجادة. والقصيدة ليست طويلة قياساً على قصائده الأُخَر، ولاسيما في فن الرثاء نفسه، فقد بلغت واحداً وأربعين بيتاً، في حين رثى المغنية (بستان) بقصيدة تتألف من مئة وخمسة وستين بيتاً. ويبدو أن الحزن اعتصر قلب ابن الرومي وهو يرثي ابنه حتى سَدَّ عليه منافذ القول، فلم يُطِلْ قصيدته على عادته في الإطالة.
وقد بدأ ابن الرومي قصيدته بذكر البكاء، وكأنه يفتتح به حزنه على ولده، ثم رأى أن هذا البكاء سيشفيه من أحزانه، لذا يأمر عينيه بأن تجودا بالبكاء على ابنه الذي يَعْدِلُ عنده تلك العينين، لكن ذلك البكاء لن يعيد محمداً إلى الحياة:
بكاؤُكُما يَشْفي وإنْ كان لا يُجْدِي فَجُودا فقد أَوْدَى نَظِيْرُكُما عندي
ثم يرى أنّ الموت تَوَخْى ابنه هو من بين كل الأبناء، على عادته في توهم الاضطهاد والشعور بأنه مخصوص دون غيره بالظلم، وهذا الولد كان أوسط إخوته سناً، فهو كالجوهرة الكبيرة الغالية التي تكون في وسط العقد، لكن الموت قصد هذه الجوهرة دون غيرها، ليفرط عقد ابن الرومي:
تَوَخَّى حِمَامُ الموتِ أَوْسَطَ صِبْيَتي فَلِلَّهِ كيف اختارَ واسِطَةَ العِقْدِ
طَواه الرَّدى عني فأضحى مَزارُه بعيداً على قُرْبٍ قريباً على بُعْد
والأمر في البيت الثاني ليس لعباً بلاغياً، بل هو حقيقة يؤمن بها ابن الرومي، لأن الحياة في نظره قائمة على أساس التناقض كما أشرنا من قبل، فابنه مَطْوِيّ تحت طبقات الثرى، بعيدٌ كل البعد عنه على الرغم من قرب قبره، فهو قريب بعيد، بعيد قريب ([14]).
¥