وابن الرومي كما مر بنا في هذه القصيدة يعتقد أن الموت توخَّى ابنه توخّياً من بين كل الأبناء، أي أن هذا الموت قصده هو دون غيره من الآباء. وهذا الاعتقاد مقصود بالظلم مخصوصٌ به وحده راسخُ في نفسه تمام الرسوخ، حتى عندما رثى المغنية (بستان)، إذ رأى أن الموت قصده هو لأنه عرف بحبه لها، فأراد أن يفجعه بها، وكأن له ثأراً عنده. وهكذا يصبح موت هذه المغنية انتقاماً شخصياً من ابن الرومي وثاراً منه ([15]):
لو كان فِعْلَ الوَرَى لقد ذَئِرَتْ له المَساعِيْرُ أَيَّما ذَأَرِ
لكنه وِتْرُ مالِكٍ مَلِكٍ يَعْلُوْ على الطَّالِبِينَ بالثَّؤَر
وكان ابن الرومي يشعر بالتميز والتفوق على أقرانه من الشعراء والكتاب معاً، ويرى أنه أهل لكل فضل وخير:
ألم تجدوني آلَ وهْبٍ لِمَدْحِكُمْ بِنَظْمِيْ ونَثْري (أخْطلاً) ثم (جاحِظاً) ([16])
وأنْ يعبر عن هذا الإحساس بالتميز فأمرٌ طبيعي من رجل يرى في نفسه الرفعة ويعبر عن ذلك بشعره، لكن ابن الرومي لجأ إلى أساليب أخرى ليؤكد فيها هذا التميز، وإن أخذت شكل ادعاءات مختلفة، لكن الغاية منها واحدة هي تأكيد ذلك التميز، وإن كان هذا التأكيد على حساب الحقائق. فقد أكَّده تميزه واستحقاقه عبر عدد من الأساليب هي:
1 ـ الإشارة إلى اختلال الموازين في عصره اختلالاً قدّم الجهلة وأدعياء الفكر والثقافة إلى السطح، وأخَّر أصحاب الفضل الحقيقيين فجعلهم في القاع:
طار قومٌ بخفَّةِ الوزنِ حتى لحِقوا رِفْعَةً بِقابِ العُقابِ
وَرِسا الرَّاجِحُوْنَ مِنْ جِلّةِ النَّا سِ رُسُوَّ الجبالِ ذاتِ الهِضابِ
هكذا الصَّخْرُ راجِحُ الوزنِ راسٍ وكذا الذّرُّ شائِلُ الوَزْنِ هاب ([17])
2 ـ نفي الفضل عن أهل زمانه كلهم بلا استثناء، ليؤكد للناس جميعاً أن أحكامهم فيه ليست صحيحة؛ فهم جَهَلَةٌ ولِئامٌ وخِساسٌ ودَوابٌّ وبِهائمُ وكلابٌ وذِئابٌ غادرةٌ، ليس أعراضهم مَطْعَنٌ لكثرة ما فيها من معايب، وليس فيهم من يستحق المديح:
آيَسْتُ مِنْ دَهري ومِنْ أهلِهِ فليس فيهم أَحَدٌ يُرْضَى
إنْ رُمْتُ مَدْحَاً لم أجِدْ أهلَهُ أو رُمْتُ هَجْواً لم أجِدْ عِرْضا ([18])
3 ـ الإدعاء أن معاصريه يرفضون شعره لبخلهم في العطاء لا لسوء فيه: ([19])
حَلَفْتُ بِمَنْ لو شاءَ سَدَّ مَفَاقِري بما ليَ فيه عن ذوي اللؤم مَرْغَبُ
لَمَا آفَتي شِعْرٌ إليهم مُبَغَّضٌ ولكنه مَنْعٌ إليهم مُبَغَّضُ
وابن الرومي بهذه الادعاءات يُمَهِّد للهجوم على معاصريه، وكأنه يُهَيَّئ الناس ليَقبلوا كل ما سيقوله في معاصريه من هجاء، ما داموا قد صدّقوه في كلامه عنهم. إنه يريد استمالة الناس إليه ليؤيدوه في هجومه، بعد أن حاول إقناعهم بجهل ممدوحيه وبخلهم ولؤمهم وخِسَّتهم ...
وقد أثّر سوء ظن ابن الرومي بمعاصريه في شعره؛ فكان يشرح لهم غريب شعره في القرطاس ليفهموا معانيه، كما أدى به سوء ظنه بفهمهم لأشعاره إلى تعمُّد الإطالة وإعادة المعنى الواحد وتقليبه على وجوهه، لأن الناس ـ حسب رأيه ـ ليسوا على درجة من الفهم والذكاء حتى يفهموا شعره، وما عليه هو إلا أن يسعى إلى تفهيمهم ما غمض عليهم. وهذا الصنيع من ابن الرومي أطال شعره إطالة ليست في موضعها، ولا تُحْمَدُ له، لأنه قدّم المعنى الواحد في عشرات الأبيات بينما قدمه غيره من الشعراء في بضعة أبيات، مما جعل شعره في كثير من الأحيان باردَ العاطفة، يميل مَيْلاً واضحاً إلى الشرح والتفصيل. والشعرُ لُمَحٌ وَوَمَضاتٌ وإيجاز. ([20])
كما اضطر إلى تكرار المديح وتكرار معانيه لإعراض ممدوحيه عنه، ولتباطئهم في عطائه:
سَيَضْطَرُّني حتى أُكَرِّرَ مَدْحَهُ تَتَابُعَ كَرّاتٍ له بالفَواضِلِ ([21])
وأدى تقلب مزاجه واضطرابه على مدح الشيء وذمه، والتماس الأدلة في حالتي المدح والذم، كما أدى به ذلك أيضاً إلى التذبذب السياسي والعقائدي، فمرة كان مع الشيعة ومرة كان مع العباسيين. والمرجح أنه لم يكن شيعياً، لكن الأمر يبقى تذبذباً سياسياً في النهاية، ثم إنه يمدح الشيعة حيناً ويعاتب بعض رؤوسهم حيناً آخر عتاباً هو في حقيقته هجاء، لكنه مُبَطَّنٌ بالعتاب، ويمدح مواليه من العباسيين مرة، ويعاتبهم مرة أخرى، وهكذا، حتى يحار المرء في حقيقة شخصيته في كثير من الأحيان.
¥