وَأَمَّا وَصْفُ " الْكُتُبِ وَالْمُصَنِّفِينَ " فَقَدْ سُمِعَ مِنَّا فِي أَثْنَاءِ الْمُذَاكَرَةِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَمَا فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الْمُبَوَّبَةِ كِتَابٌ أَنْفَع مِنْ " صَحِيحِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ " لَكِنْ هُوَ وَحْدَهُ لَا يَقُومُ بِأُصُولِ الْعِلْمِ. وَلَا يَقُومُ بِتَمَامِ الْمَقْصُودِ لِلْمُتَبَحِّرِ فِي أَبْوَابِ الْعِلْمِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ أَحَادِيثَ أُخَرَ وَكَلَامُ أَهْلِ الْفِقْهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِعِلْمِهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ أَوْعَبَتْ الْأُمَّةُ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ إيعَابًا فَمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ هَدَاهُ بِمَا يَبْلُغُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ أَعْمَاهُ لَمْ تَزِدْهُ كَثْرَةُ الْكُتُبِ إلَّا حَيْرَةً وَضَلَالًا.
ص732: لَيْسَ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ الْقُدْرَةَ الَّتِي يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ بِهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمُكْنَةُ خَالِيَةً عَنْ مَضَرَّةٍ رَاجِحَةٍ بَلْ أَوْ مُكَافِئَةٍ.
ص 720: مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءَ فِي مَنْ عَزَمَ عَلَى " فِعْلِ مُحَرَّمٍ " كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ عَزْمًا جَازِمًا - فَعَجَزَ عَنْ فِعْلِهِ: إمَّا بِمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ. هَلْ يَأْثَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ أَمْ لا؟
وَإِنْ قُلْتُمْ: يَأْثَمُ فَمَا جَوَابُ مَنْ يَحْتَجُّ عَلَى عَدَمِ الْإِثْمِ بِقَوْلِهِ: {إذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ} وَبِقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ}، وَاحْتَجَّ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِالْعَفْوِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَالْعَزْمُ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ، وَالْعَزْمُ وَالْهَمُّ وَاحِدٌ. قَالَهُ ابْنُ سيده.
الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ التَّجَاوُزَ مُمْتَدًّا إلَى أَنْ يُوجَدَ كَلَامٌ أَوْ عَمَلٌ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ التَّجَاوُزِ وَيَزْعُمُ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذْ الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ} لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِدُخُولِ الْمَقْتُولِ فِي النَّارِ مُوَاجَهَتُهُ أَخَاهُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ لَا مُجَرَّدُ قَصْدٍ، وَأَنْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي قَالَ: {لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَفَعَلْت وَفَعَلْت أَنَّهُمَا فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ وَفِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ} لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ} و، َهَذَا قَدْ تَكَلَّمَ وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَاحْتِيجَ إلَى بَيَانِهَا مُطَوَّلًا مَكْشُوفًا مُسْتَوْفًى.
فَأَجَابَ: شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ. الْحَمْدُ لِلَّهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَحْوُهَا تَحْتَاجُ قَبْلَ الْكَلَامِ فِي حُكْمِهَا إلَى حُسْنِ التَّصَوُّرِ لَهَا فَإِنَّ اضْطِرَابَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَقَعَ عَامَّتُهُ مِنْ أَمْرَيْنِ. (أَحَدُهُمَا عَدَمُ تَحْقِيقِ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَصِفَاتِهَا الَّتِي هِيَ مَوْرِدُ الْكَلَامِ. وَ (الثَّانِي عَدَمُ إعْطَاءِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ حَقَّهَا؛ وَلِهَذَا كَثُرَ اضْطِرَابُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى يَجِدَ النَّاظِرُ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ إجماعات مُتَنَاقِضَةً فِي الظَّاهِرِ ....
[قلت: أجاب بجواب طويل نفيس من ص720 إلى 769، ومن العجيب قوله في ص765: وحين كتبت هذا الجواب لم يكن عندي من الكتب ما يستعان به على الجواب؛ فإن له موارد واسعة.اهـ
رحمه الله رحمة واسعة، وجعل أعلى الجنة مسكنه.
إلى هنا انتهى النقل من هذا المجلد النفيس الذي يحسن بك أن تقرأه، وتمعن النظر فيه.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.