- قالوا: ما الذي جاء بك يا ابن عباس؟
- قال: جئتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس فيكم أنتم يا معشر الخوارج واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجئتكم من عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: علي بن أبي طالب-، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم، وأبلغهم عنكم، فأنا رسول -أي وسيط- بينكم وبينهم.
- قال بعضهم: لا تحاوروا ابن عباس، لا تخاصموه، فإن الله تعالى يقول عن قريش: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف:58]، فلما خافوا من الهزيمة قالوا: اتركوا هذا، هذا جدل إنسان خَصِم! وقال بعضهم: بل نكلمه، ولننظر ماذا يقول؟
- قال ابن عباس رضي الله عنه: فكلمني منهم اثنان أو ثلاثة، فقال لهم: ماذا تنقمون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟
- قالوا: ننقم عليه ثلاثة أمور.
- قال: هاتوا.
- قالوا: الأول: أن علي بن أبي طالب حكَّم الرجال في كتاب الله، يعني: بعث حكمًا منه، وحكمًا من معاوية رضي الله عنه، وقصة التحكيم معروفة (3)، والله تعالى يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ) [الأنعام:57].
- قال: هذه واحدة فما الثانية؟
- قالوا: الثانية: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتل ولم يسْبِ، -أي قاتلهم وما سبى نساءهم-، فلئن كانوا مسلمين فقتاله حرام، ولئن كانوا كفارًا فلماذا لم يسبهم؟
- قال: وهذه أخرى، فما الثالثة؟
- قالوا: الثالثة: أنه نزع نفسه من إمرة المؤمنين لمَّا كتب الكتاب، فلم يكتب أمير المؤمنين؛ بل قال: علي بن أبي طالب. - فانه ان لم يكون أميراً للمؤمنين فهو أمير للكافرين .... قال: أوقد فرغتم؟
- قالوا: نعم.
- قال: أما الأولى: فقولكم: حكَّم الرجال في كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى يقول في محكم التنزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ) [المائدة:95]، فذكر الله تعالى حكم ذَوَيْ عدل فيما قتله الإنسان من الصيد، سألتكم الله تعالى! التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أعظم، أم التحكيم فيما قتله الإنسان من الصيد؟
- قالوا: لا؛ بل التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أعظم.
- قال: فإن الله تعالى يقول في كتابه: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [النساء:35]، ناشدتكم الله تعالى! التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أهم، أو التحكيم في بُضع امرأة؟
- قالوا: لا، التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم.
- قال: انتهت الأولى؟
- قالوا: نعم، فالثانية؟
- قال: أما الثانية، فقولكم: قاتل ولم يسْبِ، هل تسْبون أمكم عائشة رضي الله عنها -لأنها كانت في الطرف الآخر-، وتستحلون منها ما يستحل الرجال من النساء، إن قلتم ذلك كفرتم، وإن قلتم ليست بأمِّنا كفرتم -أيضًا-؛ لأنها أم المؤمنين، فاستحيوا من ذلك وخجلوا.
- قالوا: فالثالثة؟
- قال: أما قولكم: خلع نفسه من إمارة المؤمنين، وإذا لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عقد كتاب الصلح مع أبي سفيان وسهيل بن عمرو في صلح الحديبية، قال: "اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فمحا النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة، وقال: "اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله (4).
فرجع منهم عن مذهب الخوارج ألفان، وبقيت بقيتهم، فقاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه (5).
فانظر كيف أثَّر الحوار الهادئ القوي العميق في مثل هذه الرؤوس اليابسة الناشفة، حتى رجع منهم ألفان إلى الحق في مجلس واحد لم يستغرق ربع ساعة.
- الموقف الثاني:
وهو أيضًا يتعلق بطائفة الخوارج العنيدة.
¥