ثم في هذه الأمثال [في سورة التحريم] من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة؛ فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والتحذير من تظاهرهن عليه، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما، ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة.
قال يحيى بن سلام: ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة، ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة.
وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم أيضا اعتبار آخر وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا قذف أعداء الله اليهود لها، ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأهما الله عنه، مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين؛ فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه.
وفي هذا تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك، وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها، كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف، والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد، والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه، وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه، ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون.
1/ 191 - 195:
تأويل الرؤى ومناسبات ذلك ... «ذكر أمور كثيرة»
1/ 195:
فالرؤيا أمثال مضروبة يضربها الملك الذي قد وكله الله بالرؤيا ليستدل الرائي بما ضرب به من المثل على نظيره، ويعبر منه إلى شبهه، ولهذا سمي تأويلها تعبيرا، وهو تفعيل من العبور، كما أن الاتعاظ يسمى اعتبارا وعبرة لعبور المتعظ من النظير إلى نظيره، ولولا أن حكم الشيء حكم مثله وحكم النظير حكم نظيره لبطل هذا التعبير والاعتبار، ولما وجد إليه سبيل، وقد أخبر الله - سبحانه - أنه ضرب الأمثال لعباده في غير موضع من كتابه، وأمر باستماع أمثاله، ودعا عباده إلى تعقلها، والتفكير فيها، والاعتبار بها، وهذا هو المقصود بها.
1/ 197:
وقد جاء التعليل في الكتاب العزيز بالباء تارة، وباللام تارة، وبأن تارة، وبمجموعهما تارة، وبكي تارة، ومن أجل تارة، وترتيب الجزاء على الشرط تارة، وبالفاء المؤذنة بالسببية تارة، وترتيب الحكم على الوصف المقتضي له تارة، وبلما تارة، وبأن المشددة تارة، وبلعل تارة، وبالمفعول له تارة. [ثم ذكر الأمثلة]
1/ 206:
[ذكر عن ابن عبد البر بعض المسائل التي قال فيها السلف بالقياس ثم ذكر أن نفاة القياس قد دفعوا بعضها واستدلوا عليه بالعمومات ... ثم قال:]
هؤلاء إن أمكنهم ذلك في بعض المسائل فلا يمكنهم ذلك في كثير من المواضع وهم مضطرون فيها ولا بد من القياس أو القول بما لم يقله به غيرهم ممن تقدمهم.
1/ 207:
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم {لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة، ولا تشربوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة}، وقوله: {الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم}، وهذا التحريم لا يختص بالأكل والشرب، بل يعم سائر وجوه الانتفاع، فلا يحل له أن يغتسل بها، ولا يتوضأ بها، ولا يدهن فيها، ولا يكتحل منها، وهذا أمر لا يشك فيه عالم.
1/ 219 - 220:
والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه، وتارة من عموم علته، والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ، وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر، وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها، وهضمها تارة وتحميلها فوق ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين. [ثم ذكر أمثلة]