تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وتمتع هَذَا الجانب من النقد الحديثي باهتمام النقاد، فنراهم يديمون تتبع هَذِهِ الحالة وتقريرها، وأفردوا من أجل ذَلِكَ المصنفات، مِنْهَا: كتاب " التفرد " (15) للإمام أبي داود، و " الغرائب والأفراد " (16) للدارقطني، و " المفاريد " (17) لأبي يعلى، واهتم الإمام الطبراني في معجميه الأوسط والصغير بذكر الأفراد، وكذا فعل البزار في مسنده، والعقيلي (18) في ضعفائه. وَهُوَ ليس بالعلم الهيّن، فهو ((يحتاج لاتساع الباع في الحفظ، وكثيراً ما يدعي الحافظ التفرد بحسب علمه، ويطلّع غيره عَلَى المتابع)) (19).

وفي كُلّ الأحوال فإن التفرد بحد ذاته لا يصلح ضابطاً لرد الروايات، حَتَّى في حالة تفرد الضعيف لا يحكم عَلَى جميع ما تفرد بِهِ بالرد المطلق، بَلْ إن النقاد يستخرجون من أفراده ما يعلمون بالقرائن والمرجحات عدم خطئه فِيْهِ، وَهُوَ ما نسميه بعملية الانتقاء، قَالَ سفيان الثوري: ((اتقوا الكلبي (20)، فقيل لَهُ: إنك تروي عَنْهُ، قَالَ: إني أعلم صدقه من كذبه)) (21).

ومثلما أن تفرد الضعيف لا يرد مطلقاً، فكذلك تفرد الثقة – وكما سبق في كلام ابن رجب – لا يقبل عَلَى الإطلاق، وإنما القبول والرد موقوفان عَلَى القرائن والمرجحات. قَالَ الإمام أحمد: ((إذا سَمِعْتَ أصحاب الْحَدِيْث يقولون: هَذَا حَدِيْث غريب أَوْ فائدة. فاعلم أنه خطأ أو دخل حَدِيْث في حَدِيْث أَوْ خطأ من المُحدِّث أَوْ حَدِيْث ليس لَهُ إسناد، وإن كَانَ قَدْ رَوَى شعبة وسفيان، فإذا سمعتهم يقولون: هَذَا لا شيء، فاعلم أنه حَدِيْث صَحِيْح)) (22).

وَقَالَ أبو داود: ((والأحاديث الَّتِيْ وضعتها في كتاب " السنن " أكثرها مشاهير، وَهُوَ عِنْدَ كُلّ من كتب شَيْئاً من الْحَدِيْث، إلا أن تمييزها لا يقدر عَلَيْهِ كُلّ الناس، والفخر بِهَا: بأنها مشاهير، فإنه لا يحتج بحديث غريب، وَلَوْ كَانَ من رِوَايَة مالك

ويحيى بن سعيد و الثقات من أئمة العلم)) (23).

ونحن نجد أمثلة تطبيقية متعددة في ممارسة النقاد، مِنْهَا قَوْل الحافظ ابن حجر في حَدِيْث صلاة التسبيح: ((وإن كَانَ سند ابن عَبَّاسٍ يقرب من شرط الحسن إلا أنه شاذ لشدة الفردية وعدم المتابع والشاهد من وجه معتبر)) (24).

ويمكننا أن نقسم التفرد – حسب موقعه في السند – إلى قسمين:

الأول: تفرد في الطبقات المتقدمة:

كطبقة الصَّحَابَة، وطبقة كبار التَّابِعِيْنَ، وهذا التفرد مقبول إذا كَانَ راويه ثقة –وهذا الاحتراز فِيْمَا يخص طبقة التَّابِعِيْنَ –، فهو أمر وارد جداً لأسباب متعددة يمكن حصرها في عدم توفر فرص متعددة تمكّن الْمُحَدِّثِيْنَ من التلاقي وتبادل المرويات، وذلك لصعوبة التنقل في البلدان، لا سيما في هذين العصرين.

فوقوعه فيهما لا يولد عِنْدَ الناقد استفهاماً عن كيفيته، ولاسيما أن تداخل الأحاديث فِيْمَا بينها شيء لا يكاد يذكر، نظراً لقلة الأسانيد زياد على قصرها. هَذَا فِيْمَا إذا لَمْ يخالف الثابت المشهور، أو من هُوَ أولى مِنْهُ حفظاً أَوْ عدداً.

وإن كَانَ المتفرد ضعيفاً أَوْ مجهولاً -فِيْمَا يخص التَّابِعِيْنَ- فحكمه بيّن وَهُوَ الرد (25).

الثاني: التفرد في الطبقات المتأخرة

فبعد أن نشط الناس لطلب العلم وأداموا الرحلة فِيْهِ والتبحر في فنونه، ظهرت مناهج متعددة في الطلب والموقف مِنْهُ، فكانت الغرس الأول للمدارس الحديثية الَّتِيْ نشأت فِيْمَا بَعْد، فكان لها جهدها العظيم في لَمِّ شتات المرويات وجمعها، والحرص عَلَى تلقيها من مصادرها الأصيلة، فوفرت لَهُم الرحلات المتعددة فرصة لقاء المشايخ والرواة وتبادل المرويات، فإذا انفرد من هَذِهِ الطبقات أحد بشيء ما فإن ذَلِكَ أمر يوقع الريبة عِنْدَ الناقد، لا سيما إذا تفرد عمن يجمع حديثه أَوْ يكثر أصحابه، كالزهري ومالك وشعبة وسفيان وغيرهم (26).

ثم إنّ العلماء قسموا الأفراد من حَيْثُ التقييد وعدمه إلى قسمين:

الأول: الفرد المطلق: وَهُوَ ما ينفرد بِهِ الرَّاوِي عن أحد الرُّوَاة (27).

الثاني: الفرد النسبي: وَهُوَ ما كَانَ التفرد فِيْهِ نسبياً إلى جهة ما (28)، فيقيد بوصف يحدد هَذِهِ الجهة.

وما قِيْلَ من أن لَهُ أقساماً أخر، فإنها راجعة في حقيقتها إلى هذين القسمين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير