وما دمنا قَدْ تكلمنا بإسهاب عن حديث الزهري متصلاً ومنقطعاً، وذكرنا طرقه وشواهده، وبيّنا ما يكمن فيها من ضعف وخلل، فسأتكلم عن أثر هذا الحديث في اختلاف الفقهاء، فأقول: من شَرَعَ في صوم تطوع، أو صلاة تطوع ولم يتم نفله، هل يجب عليه القضاء أم لا؟
اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
ذهب بعض العلماء إلى أن النفل يجب على المكلف بالشروع فيه، فإذا أبطل وجب عليه قضاؤه صوماً كان أم صلاةً أم غيرهما.
وهو مروي عن: ابن عباس 69، وإبراهيم النخعي 70، والحسن البصري 71، وأنس72 بن سيرين (73، وعطاء 74، ومجاهد 75، والثوري 76، وأبي ثور 77.
وهو مذهب الحنفية 78، والمالكية 79، والظاهرية 80.
والحجة لهذا المذهب:
1. قوله تَعَالَى: ((وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)) 81: قال الجصاص الحنفي: ((يحتج به في أن كل من دخل في قربة لا يجوز له الخروج منها قبل إتمامها؛ لما فيه من إبطال عمله نحو الصلاة والصوم والحج وغيره)) 82.
وللشافعي جواب عن هذا فقال: ((المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض، فنهي الرجل عن إحباط ثوابه. فأما ما كان نفلاً فلا؛ لأنه ليس واجباً عليه، فإن زعموا أن اللفظ عام فالعام يجوز تخصيصه، ووجه تخصيصه أن النفل تطوع، والتطوع يقتضي تخييراً)) 83.
2. جعلوا عمدة قولهم حديث الزهري السابق، وكأنهم رجحوا الاتصال على الانقطاع، أو أخذوا بالحديث لما له من طرق، وجعل ابن حزم الظاهري عمدة قوله حديث جرير بن حازم، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة. ودافع عن زيادة جرير84. وقد تقدم الكلام بأن جريراً مخطئٌ في حديثه، وقد ذكرنا كلام ابن حزم وأجبنا عنه.
القول الثاني:
ذهب فريق من الفقهاء إلى استحباب الإتمام ولا قضاء عليه، وهو مذهب أكثر أهل العلم، وهو مروي عن: علي 85، وعبد الله بن مسعود 86، وعبد الله بن عمر 87،
وابن عباس 88، وجابر بن عبد الله 89.
وإبراهيم النخعي 90، ومجاهد 91، والثوري 92، وإسحاق 93.
وهو مذهب الشافعية 94، والحنابلة 95.
والحجة لهم: وهو أن حديث الزهري لم يصح، فهو ضعيف منقطع، ولم يروا الآية دليلاً لذلك، فقد احتجوا بجملة من الأحاديث، منها:
1. حديث عائشة بنت طلحة 96، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: دخل عَلَيَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: هل عندكم شيءٌ؟ فقلنا: لا، قال: فإني إذن صائم. ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله، أهدي لنا حيس 97، فقال: أَرينيه، فلقد أصبحت صائماً، فأكل)). رواه مسلم 98.
2. عن أبي جحيفة 99 قال: ((آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان100 وأبي الدرداء، فزار سلمان
أبا الدرداء، فرآى أم الدرداء101 متبذلة 102، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء لَيْسَ لَهُ حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع لَهُ طعاماً، فَقَالَ: كُلْ، قَالَ: فإني صائم، قَالَ: ما أنا بآكل حَتَّى تأكل، قَالَ: فأكل، فَلَمَّا كَانَ الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فَقَالَ: نَمْ، فنام، ثُمَّ ذهب يقوم، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ من آخر الليل، قَالَ سلمان: قم الآن، فصليا، فَقَالَ لَهُ سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فاعطِ كُلّ ذي حق حقه، فأتى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فذكر لَهُ، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ((صدق سلمان)). أخرجه البُخَارِيّ 103، والترمذي 104، وابن خزيمة105، والبيهقي106.
فهذه أحاديث صحيحة أجازت لصائم النفل الإفطار، ولم تأمره بقضاء.
3. حديث أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصائم المتطوع أمين نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر)). أخرجه الإمام أحمد 107، والترمذي 108، والنسائي 109، والدارقطني 109،
والبيهقي 111. قال الترمذي: ((في إسناده مقال)) 112.
القول الثالث:
التفصيل وهو مذهب المالكية، قالوا: إن أفطر بعذر جاز، وإن أفطر بغير عذر لزمه القضاء 113.
.....................................
1 هو أحمد بن منيع بن عبد الرحمان، أبو جعفر البغوي، الأصم، (ثقة، حافظ)، مات سنة
(244 ه)، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة. التقريب (114).
¥