تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"قال ابن الطيب، (أي: القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني رحمه الله): إن قال قائل قد اختلف السلف في ترتيب سور القرآن، فمنهم من كتب في مصحفه السور على تاريخ نزولها، وقدم المكي على المدني، ومنهم من جعل في أول مصحفه الحمد، ومنهم من جعل في أوله: "اقرأ باسم ربك" وهذا أول مصحف علي رضى الله عنه.

وأما مصحف ابن مسعود فإن أوله: "مالك يوم الدين" ثم البقرة ثم النساء، على ترتيب مختلف.

ومصحف أبي كان أوله: الحمد لله، ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام ثم الأعراف ثم المائدة، ثم كذلك على اختلاف شديد.

قال القاضي أبو بكر بن الطيب: فالجواب أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ما هي عليه اليوم في المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة". اهـ

"الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 73).

وذهب فريق آخر إلى ترتيب السور توقيفي كترتيب آياتها، بدليل قراءة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعضها في الصلاة مرتبة.

يقول القرطبي رحمه الله:

"وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد: أن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم فرق على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية جوابا لمستخبر يسأل، ويوقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، فكله عن محمد خاتم النبيين عليه السلام، عن رب العالمين، فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الآيات، وغير الحروف والكلمات، ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب، وهو كان يقول: "ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن". وكان جبريل عليه السلام يقف على مكان الآيات". اهـ

"الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 74).

ويؤيد ذلك:

عدم اطراد التناسب في الوضع.

فقد رتبت الحواميم ولم ترتب التسابيح ولا الطواسين، فقد وضعت "طس" النمل بين "طسم" الشعراء، و "طسم" القصص، مع أنها محذوفة الميم وهي أقصر منها، ومعنى ذلك: الاعتقاد بأن هذا الترتيب الذي نقرأ به هو نفس ترتيب العرضة الأخيرة بين جبريل والنبي عليهما الصلاة والسلام، فصار توقيفيا من هذا الوجه.

*****

وكذلك: مسألة ترتيب الآيات:

فقد دل النص والإجماع على أن ترتيب الآيات في سورها: توقيفي بأمر منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإلا لبطل إعجاز تناسب الآيات مع تباين أوقات نزولها.

ومن ذلك:

حديث عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا إِذْ شَخَصَ بِبَصَرِهِ ثُمَّ صَوَّبَهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يُلْزِقَهُ بِالْأَرْضِ قَالَ ثُمَّ شَخَصَ بِبَصَرِهِ فَقَالَ أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، والحديث عند أحمد، رحمه الله، في مسنده.

وحديث عثمان، رضي الله عنه، لما جمع القرآن، فأشار عليه ابن الزبير، رضي الله عنه، بتقديم آية الاعتداد بسنة على آية الاعتداد بأربعة أشهر وعشر، لأن الثانية ناسخة للأولى، على قول جمهور أهل العلم، فناسب أن يتأخر الناسخ في ترتيب المصحف عن المنسوخ، فأبى عثمان، رضي الله عنه، فدل ذلك على توقيفية ترتيب الآيات.

والحديث عند البخاري، رحمه الله، من طريق: ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ

قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا إِلَى قَوْلِهِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قَدْ نَسَخَتْهَا الْأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا قَالَ: تَدَعُهَا يَا ابْنَ أَخِي لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ.

*****

وأما مسألة عد الآيات: فقد وقع الخلاف فيها، بين الكوفيين والبصريين:

فعدد الآيات عند الكوفيين: 6236 آية، وعند البصريين: 6204، ولا يعني ذلك وجود زيادة نصية في قرآن أهل الكوفة على قرآن أهل البصرة قدرها: 34 آية، فالمنقول واحد، وإنما وقع الخلاف تبعا للخلاف في مواضع الوقف.

وذهب قوم إلى أن عد آي القرآن توقيفي أيضا، ولذلك عدت "الم" آية حيث وجدت ولم تعد "المر" آية.

وسبب اختلاف السلف في عد الآي هو النقل والتوقيف على نحو من اختلاف القراءات وكلها مع الاختلاف راجع إلى النقل ومما يؤيد أنه توقيف الْأَعْمَشِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ ح قَالَ عَبْد اللَّهِ و حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ

تَمَارَيْنَا فِي سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَقُلْنَا خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً سِتٌّ وَثَلَاثُونَ آيَةً قَالَ فَانْطَلَقْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُنَاجِيهِ فَقُلْنَا إِنَّا اخْتَلَفْنَا فِي الْقِرَاءَةِ فَاحْمَرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ.

ففي هذا دليل على أن العدد راجع إلى التعلم وفيه، أيضا، دليل على تصويب العددين لمن تأمل.

مذكرة: "المدخل إلى علم التفسير"، ص23.

فالاختلاف في الوقف الذي يتفرع عليه الاختلاف في عد الآيات كاختلاف القراءات في اللفظ الواحد، لا إشكال فيه، لأن المعدود والمقروء في كلا الحالين واحد فلا زيادة فيه ولا نقصان.

والله أعلى وأعلم.

يتبع إن شاء الله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير