"وبالنظر في هذه الآية تبدو مستقلة عن كل قيد، والختام بها متسق وجيه، وانفردت وحدها بأثر يفيد قربها من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: (آخر ما نزل من القرآن كله: "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ......... ) الآية، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال .............. ، وقيل غير ذلك.
لذا ظفرت هذه الآية بترجيح العلماء لآخريتها مطلقا على القرآن كله ومن ذلك:
قول الحافظ رحمه الله: والأول أرجح، يعني هذا القول، لما في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول، وحكى ابن عبد السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزول الآية المذكورة إِحْدَى وَعِشْرِينَ يَوْمًا وقيل سبعة.
وأشار الحافظ ابن كثير، رحمه الله، إلى ذلك بقوله:
وقد روي أن هذه الآية آخرُ آية نزلت من القرآن العظيم، فقال ابن لَهِيعة: حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، قال: آخر ما نزل من القرآن كله {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال، ثم مات يوم الإثنين، لليلتين خلتا من ربيع الأول. رواه ابن أبي حاتم.
وفي إسناده عبد الله بن لهيعة:
روى الحافظ الذهبي، رحمه الله، في "ميزان الاعتدال" عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله: ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيرا مما أكتب لاعتبر به ويقوى بعضه بعضا. اهـ
وفي "جامع القرطبي" رحمه الله:
ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال: آخر ما نزل من القرآن: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)، فقال جبريل للنبى صلى الله عليه وسلم: "يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة".
بتصرف من "إمتاع الجنان بعلوم القرآن"، ص96، 97.
*****
ومن مسائل هذا الباب أيضا:
معرفة المكي والمدني فقد اختلف فيه أهل العلم على ثلاثة أقوال:
الأول: أن المكي ما نزل بمكة والمدني ما نزل بالمدينة ويرد على ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)، فقد نزلت في مكة عام الفتح، فتكون من جهة الظرف المكاني: مكية، ومن جهة الظرف الزماني: مدنية.
ويرد عليه أيضا نحو قوله تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ)، فقد نزلت في بيت المقدس فبطل الحصر المكاني المستفاد من القسمة الثنائية بين: مكة والمدينة.
والقول الثاني: أن ما ورد فيه الخطاب بـ: "يا أيها الناس": مكي، لغلبة الكفر في مكة قبل الهجرة، وما ورد فيه الخطاب بـ: "يا أيها الذين آمنوا": مدني، لغلبة الإيمان في المدينة بعد هجرة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليها.
وأورد على ذلك:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فقد ورد الخطاب بـ: "يا أيها الناس"، في سورة مدنية.
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فقد ورد الخطاب بـ: "يا أيها الذين آمنوا"، في سورة مكية، وأجيب عن ذلك بأنه لا مانع أن يخاطب المؤمنون في دار يغلب عليها الكفر، بخطاب يخصهم لفظا، ويعم غيرهم معنى، لاسيما على القول بخطاب الكفار بفروع الشريعة، فيصح حمل كل أمر للمؤمنين على أنه أمر للكافرين، وإن لم يكن الخطاب لهم: خطاب مواجهة.
¥