فعلق حكم التدبر والتعقل على وصف القرآن بأنه عربي، فدل ذلك على أن علة تدبر هذا القرآن في حق أصحاب اللسان العربي هو كونه موصوفا بأنه: "عربي"، فتراكيبه، عربية بالإجماع، ومفرداته عربية، على تفصيل في ذلك.
والقسم الثاني: المعاني التابعة: وهذه لا يدركها إلا العلماء الذين سبروا أغوار اللغة والشريعة، فلديهم القدرة على استنباط المعاني بالدلالات اللفظية غير المباشرة كـ:
دلالة الإشارة: فهي تدل على معنى ليس مقصودا باللفظ في الأصل، ولكنه لازم للمقصود، فهو مقصود تبعا لا أصلا، كـ:
دلالة: قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) على: صحة صوم من أصبح جنبا. لأن إباحة الجماع في الجزء الأخير من الليل الذي ليس بعده ما يتسع للاغتسال قبل طلوع الفجر يلزم منها إصباحه جنبا.
وكدلالة قوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا)، مع قوله تعالى: (وفصاله في عامين)، على أن: أقل أمد الحمل ستة أشهر.
وكـ: دلالة الاقتضاء: التي لا يستقيم صدق المعنى أو صحته شرعا إلا بها، كما في:
حديث ثوبان، رضي الله عنه، مرفوعا: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وهو عند الطبراني، رحمه الله، في "المعجم الكبير"، فالمعنى لا يصدق إلا بتقدير: "حكم أو إثم الخطأ والنسيان" وإلا كان كذبا لأن الواقع يشهد بوقوع الخطأ والنسيان وما وقع لا يمكن رفعه.
وكقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أخر)، فصيام المريض والمسافر الواجب على ظاهر الآية: في أيام أخر وليس في رمضان، والجواب عن ذلك: أن في الآية حذفا، يقتضيه السياق، فتقدير الكلام: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فأفطر فَصيامه عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أخر، فتوقفت الصحة شرعا على تقدير هذا المحذوف.
بتصرف من "مذكرة في أصول الفقه"، ص283.
والمعاني الأصلية للألفاظ مما تشترك فيه كل اللغات، بخلاف المعاني التبعية، فللغة العرب من المعاني التبعية ما لا يستقل بإدراكه إلا من خبر لسان العرب، وعرف مواضع ألفاظهم، فعلى سبيل المثال:
في قولك: قام زيد، و: زيد قام، و: إن زيدا قائم، و: إن زيدا لقائم، و: والله إن زيدا لقائم، و: إنما زيد قائم، و: ما قام إلا زيد، و: ما زيد إلا قائم، و: زيد القائم، و: قد قام زيد، لا تختلف الألسن في إدراك المعنى الأصلي لهذا الأقوال، فالفعل: قام يفهمه كل بحسب لسانه، و "زيد" علم دال على مسماه، يحكى كما هو في جميع الألسن.
وأما المعاني التبعية فإنها تختلف تبعا لاختلاف التركيب ففي:
قام زيد: العناية بالخبر، وهو حدث القيام، فقدم.
وفي: زيد قام: العناية بالمخبر عنه: الفاعل، ولذا قدم، فضلا عن وقوع التوكيد في هذا التركيب بالفاعل المستتر في الخبر: جملة: "قام"، فتقدير الكلام: زيد قام هو، فكأن الفاعل قد أُكِد بذكره مرتين: مرة مظهرا وأخرى مضمرا.
والخبر في التركيبين السابقين: خبر ابتدائي، لخلوه من المؤكدات اللفظية من قبيل: "إن" و "القسم" ..... إلخ، فلا يخاطب به إلا خالي الذهن.
وفي: إن زيدا قائم: التوكيد بمؤكدين: "إن"، و: اسمية الجملة: زيد قائم، فالجملة الاسمية تدل على الثبوت والاستمرار، خلاف الجملة الفعلية التي تدل على الحدوث والتجدد، فالخبر في هذا التركيب: طلبي، فلا يخاطب به إلا الشاك الذي يحتاج إلى مؤكد من قبيل: "إن".
وفي: إن زيدا لقائم: زادت المؤكدات ثالثا، وهو اللام المزحلقة في: "لقائم"، وقد سميت بذلك لأن موضع التوكيد ابتداء، إنما يقع في أول الكلام، فلما كان الكلام مُصَدَرًا بمؤكد آخر: "إن"، زحزحت اللام إلى الخبر، لئلا يفتتح الكلام بمؤكدين، فلا يقال: لأن زيدا قائم، لأن العرب لا تعرف ذلك في كلامها.
وفي: والله إن زيدا لقائم: زادت المؤكدات رابعا، وهو: القسم، فالخبر في هذا التركيب: إنكاري، فلا يخاطب به إلا المنكر الذي يحتاج إلى مزيد توكيد بخلاف خالي الذهن أو الشاك.
¥