أن النسخ رفع، بينما التخصيص بيان.
وفي النسخ يكون الحكم الأول مقصودا إلى أن يرد الناسخ، بينما في التخصيص يكون المخصَص غير مراد بالحكم ابتداء، ففي نحو قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا): المستثنى وهو: خمسون، (والاستثناء: أحد صور التخصيص المتصل)، لم يكن مقصودا بحكم اللبث ابتداء، ليقال بأنه كان داخلا إلى أن ورد الناسخ فأخرجه، وإنما هو خارج ابتداء، بخلاف نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى البيت الحرام، فإن المنسوخ كان مقصودا ابتداء بدليل صلاة المسلمين إلى بيت المقدس نحو 16 شهرا حتى ورد الناسخ فرفع حكم التوجه إلى بيت المقدس المتقدم بالتوجه إلى البيت الحرام المتأخر.
والحكم المرفوع في النسخ: لابد أن يكون حكما شرعيا، فخرجت بذلك: الإباحة العقلية، أو: البراءة الأصلية، فإنها لا تنسخ وإنما ترفع، فلا حكم قبل ورود الشرع، فاستصحب العدم الأصلي إلى حين ورود الشرع بالحظر أو الإباحة، كما في تحريم الخمر، فإنه لا يقال بأنه قد نسخ إباحتها، لأنها كانت على البراءة الأصلية قبل ورود التحريم، فكانت إباحتها عقلية لا شرعية ليقال بأن الحكم الشرعي المتأخر وهو التحريم قد نسخ الحكم الشرعي المتقدم وهو الإباحة الثابتة بدليل شرعي، فلما كانت كذلك كان الحظر الطارئ رافعا للبراءة الأصلية، فلا نسخ في هذه الصورة، على خلاف تأتي الإشارة إلى طرف منه إن شاء الله، وإلا لزم من ذلك أن تكون الشريعة كلها نسخا، لأن أحكامها وردت على إباحات عقلية في سائر الأحكام عبادات كانت أو معاملات.
والنسخ قد وقع في القرآن خلافا لمن أنكره من المعتزلة:
حيث قالوا: هو تخصيص في الأزمان، فكما أن التخصيص يقع في الأعيان، باستثناء أفراد من عموم المخصص، فكذلك يقع في الأزمان، فيكون الحكم مباحا في أوقات، ثم تخص هذه الإباحة فيصير محظورا في أوقات أخرى.
وقد حملهم على ذلك غلو بعض أهل البدع في مسألة النسخ، حتى قال بجواز البداء على الله، عز وجل، ولازم مقالتهم: وصف الله، عز وجل، بعدم العلم، فيتغير قضاؤه تبعا لما استجد من أفعال عباده، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وأهل السنة وسط بين الفريقين: فلا إفراط ولا تفريط، فالنسخ ثابت، ولا يلزم منه بداء، وإنما علم الله، عز وجل، من الأزل، أن مصلحة العباد في الزمن الأول: إباحة الفعل ومصلحتهم في الزمن الثاني: حظره، فأبيح الفعل أولا ثم ورد الحظر ثانيا، والله، عز وجل، أعلم بما يصلح شئون عباده.
فأهل الإسلام في هذه المسألة: وسط بين الملل.
وأهل السنة فيها: وسط بين النحل.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وكذلك المسلمون وسط في النسخ فإن اليهود قالوا ليس لرب العالمين أن يأمر ثانيا بخلاف ما أمر به أولا، والنصارى جوزوا لرؤوسهم أن يغيروا شريعة المسيح فيحللوا ما شاءوا ويحرموا ما شاءوا والمسلمون قالوا رب العالمين يأمر بما يشاء له الخلق والأمر وليس لأحد من الخلق أن يغير دينه ولا يبدل شرعه ولكن هو يحدث من أمره ما يشاء فينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء". اهـ
"الصفدية"، (2/ 312، 313).
والقرآن ينسخ القرآن بلا إشكال: إذ كلاهما متواتر، ونسخ المتواتر القطعي بمتواتر قطعي أمر لا خلاف في جوازه.
والقرآن ينسخ السنة من باب أولى: لأن القطعي يقضي على الظني، ومنع ذلك الشافعي، رحمه الله، وقال بأن الناسخ في هذه الصورة هو سنة مقارنة للقرآن، لئلا ينسخ عموم القرآن من قبيل قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)، خصوص السنة من قبيل النهي عن بيوع بعينها كـ: بيع الحصاة، وبيع العينة، وبيع المعدوم، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه بشرط عدم القطع ................ إلخ.
والسنة لا تنسخ القرآن، ولو كانت متواترة، لأنها أضعف منه، والضعيف لا يرفع القوي، وأجاز بعض المحققين نسخ القرآن بالسنة، وإن كانت آحادا، لأن المرفوع حقيقة هو الحكم لا اللفظ، ودلالة المتواتر على الحكم كدلالة الآحاد عليه، فقد تكون قطعية أو ظنية فاستويا من هذا الوجه، فصح رفع أحدهما للآخر.
¥