كما قيل في حديث: (لا وصية لوارث)، بأنه ناسخ لقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ)، وأجاب المانعون بأن الحديث لم ينسخ الآية، وإنما دل على الناسخ وهو آيات المواريث.
يقول القرطبي رحمه الله: "وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجود في قوله عليه السلام: (لا وصية لوارث).
وهو ظاهر مسائل مالك.
وأبى ذلك الشافعي وأبو الفرج المالكي، والأول أصح، بدليل أن الكل حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء.
وأيضا فإن الجلد ساقط في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم، ولا مسقط لذلك إلا السنة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بين". اهـ
بتصرف يسير من "الجامع لأحكام القرآن".
ومن أدلة ذلك:
حديث أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَنَزَلَتْ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً فَنَادَى أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ.
فعدلوا إلى قول واحد نَسَخَ أمرا متواترا عندهم، وهذا من أدلة قبول خبر الواحد.
وأما بيان القرآن بالسنة: تخصيصا وتقييدا وتوضيحا ........... إلخ من صور البيان، فلا إشكال في جواز ذلك، خلافا للأحناف، رحمهم الله، فلا يبين الأضعف عندهم الأقوى، وأجيب عن ذلك بأن محل البيان هو: الحكم لا اللفظ، فظني الثبوت إذا كان قطعي الدلالة، صح بيان قطعي الثبوت به إذا كان ظني الدلالة، كما في:
قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)، فإن عمومه مخصوص بحديث: (لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا)، فصح تخصيص القطعي سندا الظني دلالة، بالظني سندا القطعي دلالة.
ومن جهة التلاوة والحكم ينقسم النسخ إلى:
ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته: وذلك كغالب الآيات المنسوخات، فنسخت آية عدة المتوفى عنها زوجها: أربعة أشهر وعشرا: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) آية عدتها سنة: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ)، مع بقاء تلاوة الثانية، فالنسخ هنا قد وقع على حكم من جملة أحكام، فإن آية الاعتداد بالسنة أفادت حكما في العدة وهو: المدة، وحكما في الصلاة وهو: صحة قراءتها في الصلاة، وحكما في القراءة وهو: جواز التعبد بتلاوة لفظها بخلاف ما نسخ لفظه، فإنه لا يجوز التعبد بتلاوته. فبقيت أحكام الصلاة والقراءة، ونُسِخَ حكم العدة، وهذا أمر مطرد في هذا القسم، إذ يقع النسخ على الحكم الذي دلت عليه ألفاظ المنسوخ، وتبقى الأحكام المتعلقة بلفظه على التفصيل السابق.
ونسخ التلاوة دون الحكم: كآية الرجم: (والشيخ والشيخة ......... )، كما عند الطيالسي، رحمه الله، من طريق: أبي داود قال: حدثنا ابن فضالة، عن عاصم، عن زر، قال: قال لي أبي بن كعب: «يا زر» كأين تقرأ سورة الأحزاب؟ «قال: قلت: كذا وكذا آية قال: إن كانت لتضاهي سورة البقرة، وإن كنا لنقرأ فيها: والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله ورسوله، فرفع فيما رفع».
فهي مما نسخ لفظه دون حكمه، فالرجم ثابت بسنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، من بعده، كما في حديث عمر رضي الله عنه: (لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ
¥