ومن ذلك نسخ حظر الحجامة في نهار الصوم، فقد ثبت ذلك أولا في حديث جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، وقد استشهد يوم مؤتة سنة 8 هـ، ثم ورد الناسخ العملي باحتجام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حجة الوداع سنة 10 هـ كما في حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، فكان المتأخر ناسخا للمتقدم.
وليس من ذلك:
تقدم ذكر الآية في المصحف، فتقدم آية العدة الناسخة: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، على آية الوصية المنسوخة: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ)، دليل على عدم اعتبار ترتيب المصحف في معرفة الناسخ والمنسوخ.
وكذلك: تأخر إسلام الصحابي، فقد يكون متأخر الإسلام يروي الحديث عن متقدم، روى الحديث قبل ورود الحديث الآخر الذي يظن أنه منسوخ بحديث متأخر الإسلام لمجَرد تأخر إسلام راويه، والتحقيق أنه هو المتأخر، لأن الأول مروي قبله من طريق صحابي متقدم روى عنه ذلك المتأخر.
ولذلك اشترط بعض أهل العلم في قبول نسخ رواية متأخر الإسلام لرواية متقدم الإسلام، أن تثبت وفاة الثاني قبل صحبة الأول ليحصل اليقين بأن متقدم الإسلام لم يرو حديثه بعد حديث متأخر الإسلام، فيكون هو الناسخ لا العكس.
وإلى ذلك أشار في المراقي عاطفا على ما لا يقبل النسخ به:
وكون راويه الصحابي يقتفي ******* ومثله تأخر في المصحف
فاقتفاء الصحابي، أي: تأخره، وتأخر الآية في المصحف لا يدلان على النسخ على التفصيل المتقدم.
ومنه أيضا: قول الصحابي: هذا ناسخ لهذا، فهو اجتهاد غير ملزم، بخلاف قوله: هذا ناقل عن هذا، أو: كان هذا في أول الأمر ثم ترك، أو: كان آخر الأمرين كذا، كما في حديث جابر رضي الله عنه: كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ، وهذه رواية النسائي رحمه الله.
والنسخ هنا: نسخ وجوب لا استحباب، وهذا أولى لئلا يهدر النص كلية، فهو منسوخ من جهة الإيجاب، محكم من جهة مشروعية الفعل ولو على سبيل الندب.
يقول الحافظ ابن كثير، رحمه الله، في "الباعث الحثيث"، ص241:
"فأما قول الصحابي: "هذا ناسخ لهذا"، فلم يقبله كثير من الأصوليين، لأنه يرجع إلى نوع من الاجتهاد، وقد يخطئ فيه، وقبلوا قوله: "هذا كان قبل هذا"، لأنه ناقل. وهو ثقة مقبول الرواية". اهـ
فالثاني بمنزلة الخبر لا الفتوى.
*****
ومما يتداخل مع النسخ:
التخصيص والتقييد .............. إلخ من صور البيان.
ورفع الإباحة العقلية، كرفع ربا الجاهلية، فلا يقال بأن آيات تحريم الربا ناسخة لحله، فالربا محرم في كل الشرائع، وإنما رفع تحريم الربا إباحته العقلية في الجاهلية.
ومن أبرز أمثلة النسخ التي ذكرها السيوطي، رحمه الله، في "الإتقان":
نسخ قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، بقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
وأجاب بعض أهل العلم بأن الآية الأولى ليست بمنسوخة، فهي في حق من جهل القبلة في السفر، أو صلى تطوعا في السفر، فلا يلزمه استقبال القبلة إلا عند تكبيرة الإحرام، كما في حديث أنس رضي الله عنه، أو عند الخوف والاضطرار، كمن قيد إلى سارية فلا يستطيع التوجه إلى القبلة، وعند البخاري من حديث: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الرَّاحِلَةِ يُسَبِّحُ يُومِئُ بِرَأْسِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ.
فيكون في ذلك: إعمال لكلا النصين، وتقدم مرارا، أن إعمال النصين بالجمع بينهما أولى من إهمال أحدهما بنسخ أو ترجيح.
*****
¥