"ما تقدم أنه من قبيل المسند من الصحابي إذا وقع من تابعي فهو مرفوع أيضاً لكنه مرسل، فقد يقبل إذا صح المسند إليه وكان من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير أو اعتضد بمرسل آخر ونحو ذلك". اهـ
وهذه الشروط تشبه إلى حد كبير شروط قبول المرسل عند الشافعي رحمه الله.
فقد اشترط أن يكون راويه: تابعيا كبيرا، ثقة، مأمون السقط فلا يحدث إلا عن ثقة، ويعتضد مرسله: برواية مرفوعة، أو موقوفة، أو مرسل آخر مع اختلاف المخرج، لئلا تُقَوَى الرواية بنفسها، أو فتوى أهل العلم على تفصيل ليس هذا موضعه.
وسبب النزول يقتصر على أمرين:
الأول: أن تحدث حادثة: فينزل الوحي مبينا حكمها، كما في واقعة أسرى بدر.
والثاني: أن يسأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن شيء فينزل القرآن ببيان حكمه، كما في واقعة ظهار أوس بن الصامت من خولة بنت ثعلبة رضي الله عنهما.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن نزول القرآن على قسمين:
الأول: ما نزل ابتداء بلا سبب سابق، وهو معظم القرآن.
والثاني: ما نزل بعد واقعة أو سؤال فله سبب نزول.
وأشار السيوطي، رحمه الله، في "الإتقان" إلى إفراط بعض أهل العلم في تتبع أسباب نزول الآيات حتى حملهم ذلك على تكلف أسباب نزول لقصص قرآني يحكي أمورا وقعت قبل البعثة كحادثة الفيل وهلاك الأمم السابقة.
يقول السيوطي رحمه الله: "والذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه ليخرج ما ذكره الواحدي في تفسيره في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة به، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذكر قصة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك، وكذلك ذكره في قوله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلاً) سبب اتخاذه خليلاً فليس ذلك من أسباب نزول القرآن كما لا يخفى". اهـ بتصرف يسير.
*****
ومن مسائل هذا الباب:
فوائد معرفة سبب النزول:
أولا: بيان الحكمة التي دعت إلى تشريع الأحكام.
ثانيا: تخصيص الحكم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، كما في قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"وقال الإمام أحمد: حدثنا حَجَّاج، عن ابن جُرَيْج، أخبرني ابن أبي مُلَيكة أن حُمَيد بن عبد الرحمن بن عَوْف أخبره: أن مروان قال: اذهب يا رافع -لبَوَّابه - إلى ابن عباس، رضي الله عنه، فقل: لئن كان كل امرئ منَّا فَرح بما أتَى وأحب أن يحمد بما لم يفعل - معَذَّبًا، لنُعَذبن أجمعون؟ فقال ابن عباس: وما لكم وهذه؟ إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}، وتلا ابن عباس: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} الآية. وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكتموه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أرَوْه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه". اهـ
والراجح أن العبرة بعموم اللفظ، لأن في قصر النص على صورة السبب: إهدار لعمومه، فيكون النص قاصرا على فرد بعينه من أفراد العموم، وهذا لا يقول به من ذهب إلى أن:
العبرة بالعموم اللفظي ابتداء، فيشمل اللفظ جميع الأفراد التي تندرج تحت حكمه.
أو من ذهب إلى العموم المعنوي، فقاس غير المنصوص على المنصوص، فإنه، أيضا، وإن قال بأن سبب النزول مختص بمن نزل فيه، إلا أنه لا يقصره عليه بحيث يمنع دخول الأفراد التي تشترك معه في الحكم، وإنما يدخلها قياسا بجامع اشتراكها في المعنى الذي دل عليه النص.
وقد يقال في هذا الموضع بـ: "تخصيص الحكم بصورة السبب": فيكون:
خاصا من جهة: عدم شموله لكل الأفراد.
¥