وعاما من جهة: شموله للأفراد الذين تحقق فيهم الوصف الذي علق الحكم به.
فيفرق بين: نزول الآية في عين ذلك الشخص، ونزولها في نوعه، إذ الأول: خاص بفرد بعينه، والثاني: خاص بأفراد يندرجون تحت نوع بعينه، فخصوص الأول أقوى من خصوص الثاني.
فتكون الآية خاصة بكل من كتم علما ينتفع به، فيشمل الحكم كل أفراد هذا النوع المذموم.
وبما سبق يظهر بطلان التفاسير التي يغلب عليها الطابع الباطني بتخصيص آيات بأفراد بعينهم دون قرينة معتبرة، كمن قصر عموم "الذين آمنوا" في قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) على علي، رضي الله عنه، ففيه إهدار لعموم "الذين"، وهي اسم موصول والموصول نص في العموم كما قرر الأصوليون، بقصر الحكم الذي دلت عليه صلته بفرد واحد من أفراد عموم المؤمنين من لدن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى قيام الساعة!!!!.
والصحيح أن العموم محفوظ لم يدخله التخصيص كما في رواية ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نُعَيْم بن حماد، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مِسْعَر، حدثني مَعْن وعَوْف – أو: أحدهما - أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، فقال: اعهد إليَّ. فقال: "إذا سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فارْعِها سَمْعَك، فإنه خَيْر يأمر به، أو شَر ينهى عنه". اهـ
فلم يقل: فارعها سمعك فإنها نزلت في علي، رضي الله عنه، لأن "الذين آمنوا" هم: علي فقط!!!، ولم يقصر النص على فرد بعينه، وإنما عداه لكل أفراد الأمة، لئلا تهدر النصوص بمثل هذا التحكم.
ثالثا: بيان قطعية دخول السبب في عموم النص الذي ورد عليه، كما في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ)، فإنها نزلت في أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، وألحقت بها بقية أمهات المؤمنين قياسا بجامع كونهن فراش النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فصار العموم في حقهن قطعيا، مع أن دلالة العام على أفراده: ظنية، ولكن لما كن سبب نزول بعينه صار النص في حقهن قطعيا، فلا يخرجن بالتخصيص بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فلا توبة لقاذف أمهات المؤمنين، رضي الله عنهن، بخلاف بقية صور العام فإن دلالته عليها: ظنية، على أصلها، فيجوز إخراجها بالتخصيص، فتقبل توبة قاذف سواهن، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما.
بتصرف من "مباحث في علوم القرآن"، ص73.
رابعا: فهم معاني القرآن:
يقول "الواحدي" رحمه الله:
"لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها". اهـ
ويقول ابن دقيق العيد رحمه الله:
"بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن". اهـ
ويقول ابن تيمية رحمه الله:
"معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب". اهـ
ففي قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)
فقد فهم عروة، رحمه الله، من رفع الجناح: الإباحة، مع أن السعي: ركن، حتى أوقفته عائشة، رضي الله عنها، على سبب نزول الآيات.
¥