وقد استقرأ ابن جرير الطبري، رحمه الله، معظم أحاديث هذه المسألة، في مقدمة تفسيره، وذكر السيوطي رحمه الله، في "الإتقان"، أنها رويت عن 21 صحابيا، وقد نص أبو عبيد القاسم بن سلام، رحمه الله، على تواتر أحاديثها، واستدرك الشيخ الدكتور عبد البديع أبو هاشم، حفظه الله، في كتابه "إمتاع الجِنان"، على هذا الرأي، بقوله بأن هذه الأحاديث، وإن توفر لها التواتر في طبقة الصحابة، رضي الله عنهم، إلا أنه لم يتوفر لها في بقية طبقات السند، وهذا ينفي التواتر، لأن من شرطه، أن يتحقق في كل طبقات السند، كما هو معلوم في علم المصطلح، ولعل أبا عبيد رحمه الله قصد التواتر المعنوي، لا اللفظي، والله أعلم.
وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الأحرف السبعة اختلافا كثيرا، حتى قال ابن حبان، رحمه الله، بأن الأقوال في هذه المسألة بلغت 35 قولا، وأبرزها:
أولا: أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد، على معنى أنه حيث تختلف لغات العرب في التعبير عن معنى من المعاني يأتي القرآن منزلا بألفاظ على قدر هذه اللغات لهذا المعنى الواحد، وحيث لا يكون هناك اختلاف فإنه يأتي بلفظ واحد أو أكثر، ومن الأمثلة التي تؤيد هذا الرأي، قراءة أبي رضي الله عنه: (أخرونا نقتبس من نوركم)، والقراءة المشهورة: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)، وهو رأي أكثر العلماء، وقد رجحه الشيخ مناع، كما سيأتي إن شاء الله،، ثم حدث الخلاف في تحديد هذه اللغات، فقيل:
هي لغات: قريش، وهذيل، وثقيف، وهوازن، وكنانة، وتميم، واليمن.
وقال أبو حاتم السجستاني رحمه الله: نزل بلغة قريش، وهذيل، وتميم، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر.
يقول الآجري، رحمه الله، في "الشريعة":
"قال محمد بن الحسين رحمه الله: فإن قال قائل: عرفنا هذا المراء الذي هو كفر، ما هو؟.
قيل له: نزل هذا القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبعة أحرف، ومعناها: على سبع لغات، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن كل قبيلة من العرب القرآن على حسب ما يحتمل من لغتهم، تخفيفا من الله تعالى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا ربما إذا التقوا، يقول بعضهم لبعض: ليس هكذا القرآن، وليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعيب بعضهم قراءة بعض فنهوا عن هذا: اقرءوا كما علمتم، ولا يجحد بعضكم قراءة بعض، واحذروا الجدال والمراء فيما قد تعلمتم"
ويقول ابن أبي العز رحمه الله:
"وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع صاحبه من الحق ............. وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا، ولهذا قال حذيفة رضي الله عنه، لعثمان رضي الله عنه: أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم. فجمع الناس على حرف واحد اجتماعا سائغا وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلال، ولم يكن في ذلك ترك لواجب، ولا فعل لمحظور، إذ كانت قراءة القرآن على سبعة أحرف جائزة لا واجبة، رخصة من الله تعالى، وقد جعل الاختيار إليهم في أي حرف اختاروه، كما أن ترتيب السور لم يكن واجبا عليهم منصوصا. ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب المصحف العثماني، وكذلك مصحف غيره. وأما ترتيب آيات السور فهو ترتيب منصوص عليه، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية، بخلاف السور، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إن لم تجتمع على حرف واحد، جمعهم الصحابة عليه. هذا قول جمهور السلف من العلماء والقراء، قاله ابن جرير وغيره.
ومنهم من يقول: إن الترخص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم، وهو أوفق لهم -: أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة".
بتصرف من العقيدة الطحاوية، ص294.
¥