فقد اجتهد الصحابة، رضي الله عنهم، في كتابة المصاحف، بحسب ما وقع لهم من لغات العرب، بحيث يصير الرسم موافقا للقراءات المختلفة، كلفظ: "وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ"، فمن قرأ بالمد، فهي على الجمع فتعم ابتداء، ومن قرأ بالإفراد، فهي على الجمع، أيضا، ولكن من جهة عموم "أل" الجنسية الاستغراقية التي تفيد استغراق عموم جنس المفرد الذي دخلت عليه.
وكذلك: "ملك يوم الدين"، فمن قرأ بالقصر: "ملك" فقد وافق الرسم تحقيقا، ومن قرأ بالمد: "مالك"، فقد وافق الرسم احتمالا، وبجمع القراءتين يستفيد القارئ معنى: مُلك العين ومِلك التصرف فيها، فالله، عز وجل، هو مالك أعيان المخلوقات، والمتصرف فيها بقضائه الكوني، والحاكم فيها بقضائه الشرعي.
ومثله: قراءة ابن عامر، (قالوا: اتخذ الله ولدا) في البقرة بغير واو، و: (بالزبر وبالكتاب) بإثبات الباء فيهما، فإن ذلك ثابت في المصحف الشامي. وكقراءة ابن كثير: (تجري من تحتها الأنهار) في آخر براءة بزيادة: "من" فإنه ثابت في المصحف المكي ونحو ذلك، فإن لم يكن في شيء من المصاحف العثمانية فشاذ لمخالفتها الرسم المجمع عليه.
ومنه أيضا: ما اختلف فيه بالتاء والياء نحو: "تعلمون"، فتجرد الخط من النقط، من أدلة فقه الصحابة، رضي الله عنهم، لهذه المسألة، لأن صورة الكلمة مجردة من النقط والشكل تجعلها صالحة لكل أوجه القراءة المتواترة.
ولا يشترط في القراءة الصحيحة أن تكون موافقة لجميع المصاحف، فإن عثمان، رضي الله عنه، أثبت بعض القراءات في بعض المصاحف دون بعض ليدل القارئ على صحة هذه القراءة وتواترها، وإن لم تكن موجودة في كل نسخة، فمجرد وجودها في نسخة حظيت بموافقة اللجنة المشرفة على جمع القرآن وإجماع الصحابة، رضي الله عنهم، في المدينة، مهبط الوحي، مجرد ذلك كاف في القطع بصحتها.
ومثال ذلك: قراءة ابن عامر رحمه الله: "والزبر والكتاب المنير" بإثبات الباء فيهما، فإن ذلك ثابت في المصحف الشامي كما تقدم.
ثالثا: أن تكون صحيحة الإسناد: وهو أهم الضوابط لأن القراءة سنة متبعة.
قال في "الإتقان":
"أخرج سعيد بن منصور في سننه عن زيد بن ثابت قال: القراءة سنة متبعة. قال البيهقي: أراد أن أتباع من قبلنا في الحروف سنة متبعة لا يجوز مخالفة المصحف الذي هو إمام، ولا مخالفة القراءات التي هي مشهورة وإن كان غير ذلك سائغاً في اللغة أو أظهر منها". اهـ
وفي "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب البغدادي رحمه الله:
أنا علي بن أحمد بن عمر المقرئ، أنا أبو طاهر عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم، نا أحمد بن سعيد، نا علي بن قطرب، عن أبيه، أنه قال: «القراءة سنة متبعة لا تقرأ إلا بما أثر عن العلماء ولا تقرأ بما يجوز في العربية دون الأثر»
يقول القرطبي رحمه الله:
"قال النحاس: وزعم أبو حاتم أن قراءة حمزة بالتاء هنا، وقوله: "ولا يحسبن الذين يبخلون" [آل عمران: 180] لحن لا يجوز.
وتبعه على ذلك جماعة.
قلت، (أي: القرطبي رحمه الله): وهذا ليس بشيء، لما تقدم بيانه من الإعراب، ولصحة القراءة وثبوتها نقلا". اهـ
فالضابط الأول: ثبوت القراءة، ومن ثم يأتي تخريجها على قواعد صناعة النحو، ولو على الوجه الفصيح لا الأفصح كما تقدم.
ويتعرض لاحتمال لغوي في آية أخرى تحتمله صناعة النحو، فيحكيه وجها في الإعراب دون القراءة، فيقول:
"و: "هو" في قوله: "هو خيرا لهم" فاصلة عند البصريين.
وهي العماد عند الكوفيين.
قال النحاس: ويجوز في العربية: "هو خير لهم" ابتداء وخبر". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (4/ 256).
فلا يكفي جوازه في لسان العرب لإثباته قراءة، فإن القراءة لابد لها من سند، كما تقدم.
ومن فوائد الاختلاف في القراءات الصحيحة:
أولا: الدلالة على صيانة الكتاب المنزل.
ثانيا: التخفيف.
ثالثا: الإعجاز في إيجاز بيان الأحكام دون تكرار الألفاظ، كقراءة قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ)، فقراءة النصب تدل على الغسل، وقراءة الجر تدل على المسح على الخفين، وكلا الأمرين متواتر في السنة.
¥