رابعا: بيان المجمل: كما في قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)، فقراءة التخفيف حجة لمن قال بجواز وطء الحائض، إذا انقطع الدم وإن لم تغتسل، فيكفي أن تغسل أثر الدم ليحل لزوجها إتيانها، وهو قول ابن حزم، رحمه الله، وقراءة التشديد: حجة للجمهور الذين قالوا بتحريم إتيان الحائض بعد انقطاع الدم حتى تغتسل، لأن التطهير لا يكون إلا بالاغتسال.
ومثله: بيان مجمل اليد في قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)، بمبين قراءة: (أيمانهما)، وقد أخذ بها الشافعي، رحمه الله، وهي قراءة آحاد، يحتج بها كخبر آحاد في باب الأحكام كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وبيان الكلالة في قراءة: (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ "من أم")، فيتساوى الذكر والأنثى في الميراث من جهة كونهما من الأم.
ولذلك قال العلماء: "باختلاف القراءات يظهر الاختلاف في الأحكام".
بتصرف من: "مباحث في علوم القرآن"، ص161.
خامسا: إثراء المعنى بتعدد قراءة الكلمة الواحدة:
كما في قوله تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).
فقراءة: "لا يَضُرُكم"، المعروفة من الضر، وقراءة "لا يَضِرْكم" من: الضير.
يقول القرطبي رحمه الله:
"قلت: قرأ الحرميان وأبو عمرو: "لا يضركم" من ضار يضير كما ذكرنا، ومنه قوله "لا ضير"، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (4/ 160، 161).
وكذلك في قوله تعالى: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ).
فمنزلين: اسم مفعول.
وقراءة: "مُنْزِلين" اسم الفاعل بمعنى: منزلين النصر.
وقراءة: "منزلين": بالتشديد على التكثير، كقطع و قطع بالتشديد، وقد تقرر في لسان العرب أن: الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى.
يقول القرطبي رحمه الله:
"وقرأ أبو حيوة: "منزلين" بكسر الزاي مخففا، يعني منزلين النصر. وقرأ ابن عامر مشددة الزاي مفتوحة على التكثير". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (4/ 171).
ومنه قوله تعالى: (وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا)، فقد قرئ بتشديد تاء "قتلوا" على التكثير، فأفاد زيادة في المعى تبعا لزيادة المبنى كما تقدم.
"الجامع لأحكام القرآن"، (4/ 282).
ومنه قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ):
بنصب: "الحمدَ"، فيكون في الكلام مقدر محذوف تقديره: أحمد الله الحمدَ، فينصب على المصدرية، بخلاف القراءة المتواترة بالرفع: "الحمدُ" بالرفع على الابتداء، وفي كلا القراءتين معان ليست في الأخرى:
فإن في قراءة الرفع إثباتا لاسمية الجملة: (مبتدأ: "الحمدُ"، وخبر: متعلق الجار والمجرور "لله"). والجملة الاسمية تدل على الثبوت والاستمرار فيكون فيها من إثبات اتصاف الله، عز وجل، بالمحامد المطلقة ما ليس في الجملة الفعلية، على قراءة النصب، لأنها تدل على الحدوث والتجدد، ويكون في الجملة الفعلية من تجدد الفعل من جهة العبد الحامد ما ليس في الاسمية، وتجدد الحمد بتجدد الأحوال، نعمة أو ابتلاء أمر مقصود للشارع، عز وجل، فالحمد ذكر قلبي لساني يؤجر المكلف على الإتيان به.
وثم فائدة أخرى، وهي: أن في الجملة الفعلية نوع اختصاص بالحامد، فإن "الحمد" بالرفع، يقع من الذاكر ومن غيره من الكائنات، بخلاف "الحمد" بالنصب، فإنه لا يقع إلا من الذاكر، وفي هذا من التزلف والتقرب إلى الباري، عز وجل، ما ليس في قراءة الرفع.
يقول القرطبي رحمه الله:
"وأجمع القراء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من: "الحمد لله".
وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج: " الحمد لله " بنصب الدال، وهذا على إضمار فعل.
¥