فينبغي التفريق في هذا المقام بين تواتر اللفظ المكتوب وتواتر القراءة، فالمنقول إلينا بين دفتي: المصحف متواتر قولا واحدا، بخلاف القراءات فإن منها ما لم يتواتر، وإن صح إسناده آحادا، ولا يقدح ذلك في نقل القرآن، لأن حفظ القرآن يحصل بنقل ما بين دفتي المصحف متواترا، وإن اختلفت طرق الأداء، تماما كما وقع الخلاف في عد آيات القرآن، فإن ذلك لا يقدح في حفظه، لأن المنقول بالتواتر بين دفتي المصحف واحد، وإن اختلف في عد آياته العادون، فالعبرة في حفظ القرآن: حفظ النص المكتوب، الذي تختلف قراءته تبعا لاحتمالات رسمه على التفصيل المتقدم.
فمن ذلك:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ):
فقد قرئ "مضعفة"، بالتشديد، ورسمها في المصحف بالألف الجنجرية على الضاد، يحتمل كلا القراءتين بغض النظر عن سندهما، فالخط المكتوب متواتر، بخلاف اللفظ المقروء فقد يتواتر وقد لا يتواتر.
*****
ومنه أيضا:
قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ):
بنصب: "الحمدَ"، فيكون في الكلام مقدر محذوف تقديره: أحمد الله الحمدَ، فينصب على المصدرية، بخلاف القراءة المتواترة بالرفع: "الحمدُ" بالرفع على الابتداء.
فقراءة الرفع متواترة أجمع عليها القراء السبعة، بخلاف قراءة النصب فهي قراءة سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج، الراجز المعروف، وهي غير متواترة، ومع اختلاف القراءتين إسنادا، إلا أن خطهما المكتوب واحد وهو: متواتر.
وفي قراءة النصب من زيادة المعنى ما لا يوجد في قراءة الرفع، إذ قراءة النصب فيها تقدير عامل أكد بالمصدر المنصوب، بخلاف قراءة الرفع، وقد يقال: إن في قراءة الرفع أيضا: توكيد من جهة كون الجملة اسمية، والجملة الاسمية تدل على الثبوت والاستمرار فضلا عن دلالة "أل" في "الحمد" في كلا القراءتين: على استغراق جنس المحامد لله، عز وجل، قدرا ووصفا، وهو مما يشعر بتوكيد المعنى.
وفيها أيضا: نوع اختصاص، أشار إليه سيبويه، رحمه الله، بقوله ما معناه: إن الحامد إذا نصب: "الحمدَ" فإنه يخبر بأن الحمد منه خاصة، بخلاف من يرفع: "الحمدُ" فإنه يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلائق، فالأول يتزلف بذلك التودد في العبارة إلى مغفرة الله عز وجل.
بتصرف من "الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 145).
*****
ومنه قوله تعالى: (فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ):
فقد قرئ: "فأثابهم"، وهي قراءة الجحدري، رحمه الله، كما أشار إلى ذلك القرطبي رحمه الله.
ورسم: (فآتاهم) الموجود في المصحف، بألف خنجرية بعد التاء المثناة، وياء غير منقوطة بعدها، يجعل الرسم بإزالة التنقيط صالحا لكلا اللفظين، فيكون الرسم: "متواترا"، وأوجه قراءته منها ما متواتر ومنها ما هو آحاد، ولا إشكال في ذلك، لأن القدر المشترك بينهما، وهو الرسم الذي يحتمل كليهما متواتر، وهو محل البحث في هذه المسألة.
*****
وقوله تعالى: (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا):
فإن الرسم غير منقوط يحتمل: "ننشزها" من النشوز وهو الرفع، ويحتمل "ننشرها" من النشر وهو الإحياء، فتعدد احتمال اللفظ والرسم واحد.
يقول ابن كثير رحمه الله:
"أي: نرفعها فتركب بعضها على بعض.
وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي نُعَيْم عن إسماعيل بن أبي حكيم عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {كَيْفَ نُنشِزُهَا} بالزاي ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقرئ: (ننشرها) أي: نحييها قاله مجاهد". اهـ
وهذا بغض النظر عن درجة القراءتين، فالمقصود بيان: احتمال الكلمة المكتوبة التي نقلت إلينا بالتواتر لأكثر من قراءة.
*****
وقوله تعالى: (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ):
فالقراءة المشهورة: برفع "الله" على الابتداء، وقرئ بالنصب، فوجب تقدير عامل ناصب للفظ الجلالة "الله".
يقول القرطبي رحمه الله: "وقرئ: "بل الله" بالنصب، على تقدير
بل وأطيعوا الله مولاكم". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (4/ 205).
¥