ويقول أبو السعود رحمه الله: "وقرىء بالنصب كأنه قيل: فلا تطيعوهم بل أطيعوا الله". اهـ
فأفادت القراءة الثانية: النص على لازم ولاية الله، عز جل، عباده المؤمنين: طاعته فيما أمر في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن طاعة الرسول من طاعة مرسِلِه، بينما اقتصرت القراءة الأولى على ذكر الملزوم دون اللازم لدلالة السياق عليه، فإنها وردت في سياق النهي عن طاعة الذين كفروا، الذي أفاده منطوق الشرط: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ"، فإنه خبر أريد به الإنشاء، فالنص على عاقبة السوء: "فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ"، نهي عن اقتراف ما يوجبها.
ولازم ذلك بداهة: ضده من طاعة الله عز وجل.
*****
ومنه قوله تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ):
فقد قرئ: (تعلمون)، بالتخفيف، مقابلة للتخفيف في: (تدرسون)، وقرأ ابن عامر والكوفيون بالتشديد، وهي قراءة حفص، وهي ترجع إلى تشكيل الرسم، وفيها من المعنى زيادة بزيادة المبنى، إذ التشديد يعدي الفعل اللازم إلى مفعول، والمتعدي إلى مفعول إلى مفعولين، فالمعلم لا بد أن يكون قد علم ابتداء، بخلاف العالم فإنه قد يَعْلَمُ ولا يُعَلِمُ، فصار المعلم أعم من جهة المعنى من العالم، فهو عالم وزيادة، فتكون النسبة بينهما نسبة: عموم وخصوص مطلق، إذ كل معلم عالم ولا عكس، ومرجع الاختلاف إلى اختلاف التشكيل لا الرسم، وهو أمر يتعلق بكيفية النطق لا بكيفية الكتابة، وهو من جهة أخرى أحد أوجه تميز لغة العرب، فالإعراب خصيصة من خصائص هذه الأمة، فبتغير الشكل يتغير المعنى زيادة ونقصا مع وحدة الرسم.
وإلى ذلك أشار القرطبي، رحمه الله، بقوله:
"قوله تعالى: (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) قرأه أبو عمرو وأهل المدينة بالتخفيف من العلم.
واختار هذه القراءة أبو حاتم.
قال أبو عمرو: وتصديقها "تَدْرُسون" ولم يقل "تُدَرِسون" بالتشديد من التدريس.
وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة، (ومنهم: حفص): "تعلمون" بالتشديد من التعليم، واختارها أبو عبيد.
قال: لأنها تجمع المعنيين "تعلمون، وتدرسون".
قال مكي: التشديد أبلغ، لأن كل معلم عالم بمعنى يعلم وليس كل من علم شيئا معلما، فالتشديد يدل على العلم والتعليم، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط، فالتعليم أبلغ وأمدح وغيره أبلغ في الذم".
بتصرف من: "الجامع لأحكام القرآن"، (4/ 109).
*****
وكذلك قوله تعالى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ).
فقد قرأ حمزة: (فأزالهما).
والرسم محتمل لكلا القراءتين، إذ ألف المد لا تلزم كتابتها، بل قد يستغنى عنها بألف خنجرية صغيرة، أو يستغنى عنها إلى غير بدل لدلالة النطق عليها كما في: "السموات"، فالنطق يدل بداهة على ألف المد بعد الميم.
وفي كلً معنى:
ففي: "فأزلهما": معنى الزلل، وفي "أزالهما": معنى الزوال.
يقول القرطبي رحمه الله:
"وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى، إلا أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى.
يقال منه: أزللته، (أي: طلبت زلته)، فزل.
ودل على هذا قوله تعالى: "إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا" [آل عمران: 155]، وقوله: "فوسوس لهما الشيطان" والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية، وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان إنما قدرته على إدخاله في الزلل، فيكون ذلك سببا إلى زواله من مكان إلى مكان بذنبه. وقد قيل: إن معنى أزلهما من زل عن المكان إذا تنحى، فيكون في المعنى كقراءة حمزة من الزوال". اهـ
بتصرف من: "الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 302).
*****
¥