تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذه المسألة تشبه إلى حد كبير مسألة تواتر نقل القرآن الكريم، فإن بعض الروايات تذكر أن عدد من جمع القرآن الكريم كاملا في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أربعة فقط، أو سبعة بجمع القراء المذكورين في ثلاث روايات ذكرها البخاري، رحمه الله، في صحيحه، وهذا جمع لا يتحقق به التواتر، فكيف يصح إذن القول بتواتر القرآن؟

والجواب:

أولا: أن النص على من تقدم لا يعني نفي جمع القرآن عن غيرهم، وإنما اتصلت الأسانيد إلى أولئك، (من جهة رواية المصحف كاملا)، ولم تتصل إلى الباقين، وقد تفرق الصحابة، رضي الله عنهم، في الأمصار، وأتم كثير منهم الحفظ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعدد الحفظة يقينا أكثر من ذلك بكثير، بدليل مقتل سبعين منهم في يوم بئر معونة في عصر الرسالة، ومقتل مثلهم يوم اليمامة، فهذا دليل مؤكد على أن كثيرا من الصحابة، رضي الله عنهم، أتموا حفظ القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبعد وفاته، ولكنهم لم يتصدوا لإقراء الناس، ولذلك لم تتصل الأسانيد إليهم اتصالها إلى أولئك الذين تصدوا للإقراء.

وثانيا: وهو الشاهد في هذا الموضع: أن التواتر المقصود هو تواتر حفظ الآيات، وليس من شرط ذلك، كما ذكر الماوردي رحمه الله، أن يكون كل راو حافظا للقرآن بأكمله، بل لو حفظ القرآن الكريم متواترا على التوزيع لكفى، فيحفظ هذا ما لا يحفظ ذاك، ولكن في النهاية يكون لكل آية: جمع من الحفاظ يصل إلى عدد التواتر، وهكذا في مسألة شذوذ بعض ألفاظ القراءات المعروفة، وهي ألفاظ قليلة، فإنه لا يلزم أن يكون اللفظ في جميع القراءات متواترا، بل قد يكون متواترا في قراءة آحادا في قراءة أخرى، وتكون جميع ألفاظ القرآن في آخر الأمر متواترة ولو لم يقع التواتر بأكمله في قراءة واحدة، إذ يكفي أن تكون متواترة من طريق معتبر ولا يشترط اتحاد جهة التواتر، تماما كما قال بعض أهل العلم في مسألة هل البسملة آية من القرآن أو ليست بآية، إذ رجح كونها آية في قراءة وليست بآية في قراءة أخرى، فتكون متواترة في قراءة، غير متواترة، بل ليست قرآنا في قراءة أخرى.

والله أعلم.

*****

ومن مسائل هذا المبحث:

مسألة: هل يجوز الاحتجاج بالقراءات غير المتواترة، بمعنى هل يجوز الاستدلال بها في مسائل الأحكام؟

فقد اختلف العلماء في هذه المسألة:

فذهب جمع من الأصوليين إلى عدم جواز الاحتجاج بها، لأن راويها رواها على أنها قرآن، فلما ثبت أنها ليست بقرآن، سقط الاحتجاج بها.

وذهب الأحناف، رحمهم الله، إلى جواز الاحتجاج بها كخبر آحاد، لأن عدم ثبوتها متواترة، لا يخرجها عن كونها مروية عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كخبر آحاد، ولكنهم اشترطوا مع ذلك، أن يكون الخبر مستفيضا، كما قرر ذلك السرخسي رحمه الله في "المبسوط"، وعليه استدلوا بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، في إيجاب التتابع في صيام كفارة اليمين، فقيدوا بها مطلق الصوم في القراءة المتواترة: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ)، ولم يأخذوا بقراءة أبي رضي الله عنه: (فعدة من أيام أخر متتابعات)، في صيام القضاء، وعليه يجوز تفريق أيام قضاء رمضان، ولا يشترط تتابعها، وإن كان الأولى أن يقضيها متتابعة لتكون صورة القضاء مماثلة لصورة الأداء.

وذهب المالكية، رحمهم الله، كما نقل ذلك القرطبي رحمه الله، صاحب المفهم، إلى عدم الاحتجاج بالقراءة غير المتواترة، إذا لم يرفعها ناقلها إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا إجماع عندهم، وأما الخلاف بينهم، فقد وقع في القراءة التي رفعها قائلها إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمنهم، من احتج بها كخبر آحاد، ومنهم من ردها، كابن العربي، رحمه الله، الذي أطلق القول بأنها لا تفيد علما ولا عملا، والصحيح عندهم، جواز الاحتجاج بها على أنها خبر آحاد.

وذهب الحنابلة، رحمهم الله، إلى الاحتجاج بها إذا صح رفعها إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما نقل ذلك ابن قدامة رحمه الله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير