"منحة الجليل"، (1/ 139).
وقراءة أبي جعفر: (لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ): (لِيُجْزَى قوماً بما كانوا يكسبون)، ببناء الفعل "يجزي" لما لم يسم فاعله، ونصب "قوما" على المفعولية، وإقامة الجار والمجرور: "بما كانوا" مقام نائب الفاعل، فقد استدل بها الكوفيون، ومعهم الأخفش، رحمه الله، على جواز إقامة غير المفعول به مقام نائب الفاعل، مع وجوده، خلافا للبصريين الذين منعوا ذلك، فلا يجوز إقامة غير المفعول مع وجوده، وردوا على استدلال الكوفيين والأخفش بوجهين:
الوجه الأول: أن الجار والمجرور ليس هو نائب الفاعل، ولكن نائب الفاعل ضمير مستتر يعود إلى مصدر يجزي وهو "الجزاء"، أي: ليجزى الجزاءُ.
والوجه الثاني: أن هذه القراءة شاذة، والقراءة الشاذة لا تصلح للاحتجاج بها، لأنها تشبه ما قد يكون من ضرورات الشعر، وقد ضعف الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، رحمه الله، هذا القول.
"شرح شذور الذهب مع حاشية منتهى الأرب"، ص194.
فهذه القراءة، وإن كانت شاذة إلا أنها قد صدرت ممن يحتج بكلامه، فهي لا تخرج عن كونها خبر آحاد، والجمهور على جواز الاحتجاج بالحديث الشريف في مسائل علم النحو، على تفصيل في ذلك، فهي لا تخرج من دائرة الاحتجاج، وإن لم تثبت قرآنا.
والخطب في مسائل اللغة أيسر منه في مسائل الأحكام.
وقراءة: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً)، برفع: "صيحةٌ"، وجعل: "كانت" تامة، فالمعنى: إن وجدت إلا صيحةٌ واحدة، فالقياس: إن كان إلا صيحة واحدة، بتذكير الفعل "كان"، لأن المرفوع "صيحةٌ"، وإن كان مؤنثا إلا أنه مفصول عن الفعل بـ: "إلا"، فهو عند التحقيق بدل من مرفوع مذكر تال للفعل، فتقدير الكلام: إن كان شيء إلا صيحة واحدة، ومع ذلك أُنِث الفعل، فدل ذلك على جواز التأنيث في مثل هذه الصورة، وإن كان مرجوحا، في مقابل التذكير الراجح، على التفصيل المتقدم.
وكذلك قراءة: (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)، بتأنيث الفعل "تُرى"، فتقدير الكلام: فأصبحوا لا يرى شيء إلا مساكنهم، فتكون: "مساكنهم" بدلا من المرفوع المذكر: "شيء"، ومع ذلك أُنِث الفعل، فدل ذلك، أيضا، على جواز التأنيث في مثل هذه الصورة، وإن كان مرجوحا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في المثال السابق.
"شرح شذور الذهب"، ص206.
والله أعلى وأعلم.
يتبع إن شاء الله.
ـ[مهاجر]ــــــــ[03 - 11 - 2008, 09:14 ص]ـ
ومع مسألة المحكم والمتشابه:
أولا: تعريفهما:
تعريف المحكم لغة:
ذكر الزركشي، رحمه الله، في "البرهان": أن أصله لغة المنع، فتقول: أحكمت بمعنى رددت، وسمي الحاكم حاكما لأنه يمنع الظالم من ظلمه، ومنه حكمة اللجام، وهي التي تمنع الفرس من الاضطراب.
ومنه قول جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهائكم ******* إني أخاف عليكم أن أغضبا.
أي: امنعوا سفهائكم.
واختار بعض أهل العلم معنى: "الإتقان"، فقال: المحكم: اسم مفعول من أحكم، أي أتقن، يقال: بناء محكم، أي متقن، لا وهن فيه ولا خلل.
تعريف المتشابه لغة:
اسم فاعل من تشابه، أي أشبه بعضه بعضا، وذكر الزركشي، رحمه الله، أن أصله أن يشتبه اللفظ في الظاهر مع اختلاف المعاني.
وأما اصطلاحا، فقد اختلفت آراء العلماء في تعريف المحكم والمتشابه، ومن أبرز ما قيل في هذه المسألة:
أن المحكم: ما عرف المراد منه، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة والحروف المقطعة في أوائل السور، وهذا قول القرطبي رحمه الله.
وقيل المحكم: ما لا يحتمل إلا وجها واحدا، والمتشابه: ما احتمل أوجها. اهـ، فعلى هذا القول يكون لفظ: (ثلاثة) في قوله تعالى: (ثلاثة قروء): محكما لأنه لا يحتمل إلا معنى واحدا، وهو العدد ثلاثة، فهو نص لا يقبل الاحتمال، وأما لفظ (قروء)، فهو، على هذا القول، من المتشابه، لأنه مشترك لفظي يحتمل أكثر من معنى، فهو يأتي بمعنيين متضادين: "الطهر والحيض".
والأضداد من أكثر المواضع إجمالا واشتباها فهي تحتاج إلى بيان واف لاحتمال اللفظ معنيين لا يمكن اجتماعهما أبدا في نفس الوقت من نفس الجهة.
¥