فقد رجح ابن قدامة رحمه الله، في "روضة الناظر"، أن الواو استئنافية، وقال بأنه الأصح من جهة السياق وقواعد اللغة، لما يلي:
أولا: أنه لو كانت الواو عاطفة، لوجب أن يكون سياق الكلام: "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، ويقولون آمنا به"، وهو خلاف سياق الآية: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به).
ثانيا: أنه لو كان الراسخون في العلم، يعلمون تأويله، لكان ابتغاء التأويل محمودا، ولكن الله عز وجل ذم ابتغاء التأويل في صدر الآية: (فأما الذين في قلوبهم مرض فيتبعون ما تشابه منه)، فوصف متبعي التأويل بأنهم مرضى القلوب، وكذا ذمه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في حديث عائشة، رضي الله عنها، مرفوعا: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم".
وهم الذين قال عنهم ابن عباس، رضي الله عنهما، كما روى الآجري، رحمه الله، في "الشريعة: "يؤمنون بمحكمه، ويضلون عند متشابهه، وقرأ: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) ". اهـ
"الشريعة"، ص27.
ثالثا: ولأن قولهم: (آمنا به)، يدل على نوع تفويض وتسليم لما لم يقفوا على معناه، لا سيما إذا وقد أتبعوه بقولهم: (كل من عند ربنا) فذكرهم ربَهم هنا يفيد الثقة به والتسليم لأمره، وأنه جاء من عنده كما جاء المحكم.
رابعا: ولأن لفظة (أما) تفريعية لتفصيل المجمل، فذكره لها في الذين في قلوبهم زيغ مع وصفه إياهم بإتباع المتشابه وابتغاء تأويله يدل وجود على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة وهم الراسخون في العلم الذين يؤمنون بالمتشابه ويردونه إلى محكمه.
ومما يؤيد أن الواو استئنافية، لا عاطفة في قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)، دلالة الاستقراء في القرآن، ذلك أنه تعالى إذا نفى عن الخلق شيئا وأثبته لنفسه، عز وجل، فقد دل الاستقراء، كما يقول الشيخ الشنقيطي، رحمه الله، في "أضواء البيان"، أنه لا يكون له في ذلك الإثبات شريك، كقوله تعالى: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله)، والقصر في الآيتين قد جاء بأقوى أساليب القصر: (النفي بـ: "ما" في الآية الأولى، و "لا" في الآية الثانية، والاستثناء بـ: "إلا").
ويقول الخطابي رحمه الله: لو كانت الواو في قوله تعالى (والراسخون)، للنسق، أي العطف، لم يكن لقوله تعالى: (كل من عند ربنا) فائدة، فالمعنى، والله أعلم، كيف يفوضون علم ما علموه؟.
ويقول الشيخ الشنقيطي، رحمه الله، في "أضواء البيان"، بأن القول بأن الوقف تام على قوله تعالى: (إلا الله) وأن قوله تعالى: (والراسخون في العلم) ابتداء كلام، هو قول جمهور العلماء، وممن قال بذلك عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وابن مسعود وأبي بن كعب وغيرهم كثير.
وممن حرر الخلاف في هذه المسألة فأجاد، الشيخ مناع القطان، رحمه الله، في "المباحث"، حيث ذكر الخلاف في هذه المسألة، فقال ما ملخصه:
أولا: ذهب الجمهور، إلى أن الواو في قوله تعالى: (والراسخون في العلم) للاستئناف، وقد سبق في كلام الشنقيطي رحمه الله.
ثانيا: وذهب بعض العلماء وعلى رأسهم مجاهد، رحمه الله، إلى أن الواو عاطفة، فقد روي عنه أنه قال: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أقفه عند كل آية وأسأله عن تفسيرها، واختار هذا القول النووي رحمه الله، فقال في شرح مسلم: "إنه الأصح لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته"، ويَرِدُ على كلام النووي رحمه الله: أن لله عز وجل أن يمتحن خلقه بما شاء، فلا مانع أن يمتحنهم بالإيمان بما لا يعلمون معناه، ولا أدل على ذلك من الحروف المقطعة، في أوائل السور، فالجمهور على أنها مما استأثر الله عز وجل بعلمه. # وأجيب بأن بعض أهل العلم ذكر للحروف المقطعة معان:
ثم حرر، رحمه الله، الخلاف في هذه المسألة بناء على تعريف التأويل، فقد اختلف العلماء في تعريفه، على ثلاثة أقوال:
أولا: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو اصطلاح أكثر المتأخرين.
ثانيا: التفسير، وهو اصطلاح الطبري، رحمه الله، في تفسيره.
¥