يقول الحافظ أبو نعيم الأصفهاني رحمه الله: "فلا يتتبع هفوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وزللهم ويحفظ عليهم ما يكون منهم في حال الغضب والموجدة إلا مفتون القلب في دينه". اهـ، وصدق رحمه الله، فإن علامة الفتنة في الدين: القدح في حملة الرسالة، فهو ملمح بارز في كل ملة أو نحلة باطلة، فالكفار الأصليون من المستشرقين، وأذنابهم من المستغربين من العلمانيين والليبراليين ومن يسمون أنفسهم بـ: "العقلانيين"، وأهل البدع، كل أولئك مغرمون بتتبع هفوات أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قدحا فيهم وحطا من منزلتهم الرفيعة فهم الصدر الأول الذي نصر الدين وحمى أركان الملة.
وقل مثل ذلك فيمن تتبع نصوصا قد يدل ظاهرها على نفي ما ثبت لله، عز وجل، في محكم الآيات، كمن تتبع نحو:
قوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ).
وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ).
لينفي علو الله، عز وجل، فهو في السماء وفي الأرض، وليس في السماء، بمعنى العلو المطلق!!! كما دلت الآيات والأحاديث المحكمات على ذلك.
فقد وقع ذلك المستدل في الخطأ من وجهين:
الأول: أنه أعرض عن المحكمات التي تدل على علو الله، تبارك وتعالى، على الوجه اللائق بجلاله، فلم يرد إليها المتشابه من تلك الآيات.
والثاني: أن هذه الآيات التي استدل بها ليست متشابهة أصلا، عند تدقيق النظر فيها، فالآية الأولى تدل على أن الله، عز وجل، في السماء وفي الأرض بعلمه لا بذاته، لقرينة: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ)، فآخر الآية ينقض ما استدلوا له بأولها من كونه، عز وجل، بذاته في كل مكان.
والآية الثانية تثبت ألوهيته، عز وجل، لمن في السماء ومن في الأرض، فلم تتعرض لوجوده، عز وجل، وإنما يصح استدلالهم لو كان نص الآية: وهو الذي في السماء موجود وفي الأرض موجود، ولكن الآية قد دلت على معنى الألوهية لا الوجود والألوهية أمر يتحقق دون حلول الإله في كل مكان، فيقال ولله المثل الأعلى: فلان أمير في نجد وفي الحجاز، مع أنه لا يوجد بذاته في كليهما، فالمعنى: هو الحاكم في كليهما، فكذلك الباري، عز وجل، من باب أولى: إله في السماء وإله في الأرض مع كونه مستويا على عرشه على الوجه اللائق بجلاله.
وللكفار الأصليين نصيب وافر من هذه الطريقة المعوجة في الاستدلال:
فالنصارى يتبعون متشابه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، فيستدلون بصيغة الجمع على بدعة التثليث!!!!، ويعرضون عن محكم قوله تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) وغيره من الآيات التي هي نص في توحيد الباري عز وجل، مع أن الآية التي استدلوا بظاهرها لا تدل على صحة مقالتهم الباطلة عقلا ونقلا، فالجمع فيها للتعظيم، وهذا أمر جارٍ على لسان العرب الذي نزل الوحي به. بل إن بعض المخرفين المعاصرين من أهل البدع قد استدل بصيغ الجمع في نحو قوله تعالى: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) على أن آل البيت، رضي الله عنهم، يحاسبون العباد مع الله، عز وجل، يوم القيامة!!!!!.
والنصارى أيضا، كعادتهم في تتبع المتشابه يستدلون بنحو قوله تعالى: (وَرُوحٌ مِنْهُ)، على صحة مقالتهم فيقولون: "من" للتبعيض فتكون ذات المسيح عليه الصلاة والسلام جزءا من ذات الباري عز وجل!!!!.
والصحيح أنها لابتداء الغاية من جهة المسبِب وهو: الله، عز وجل، والإضافة فيها للتشريف، فالله، عز وجل، أرسل الروح القدس عليه السلام إلى مريم عليها السلام فتمثل لها بشرا سويا، فنفخ في جيب درعها، فكانت تلك النفخة منه سببا في حملها، والسبب يفتقر إلى مسبِبه، وهو الله، عز وجل، الذي أذن بكلمته التكوينية "كن" بخلق عيسى عليه الصلاة والسلام.
¥