"وَأَمَّا طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْبُخَارِيِّ وَإِسْحَاقَ فَعَكْسُ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ الْمُتَشَابِهَ إلَى الْمُحْكَمِ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ الْمُحْكَمِ مَا يُفَسِّرُ لَهُمْ الْمُتَشَابِهَ وَيُبَيِّنُهُ لَهُمْ، فَتَتَّفِقُ دَلَالَتَهُ مَعَ دَلَالَةِ الْمُحْكَمِ، وَتُوَافِقُ النُّصُوصُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِنَّهَا كُلَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَنَاقُضَ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ وَالتَّنَاقُضُ فِيمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ". اهـ
ولذلك كان من طريقة السلف الإنكار على من تتبع المتشابه ابتغاء الفتنة، فعزر عمر، رضي الله عنه، صبيغ بن عسل لما تتبع المتشابه، وراح يبث شبهه بين عوام المسلمين فصار فتنة لهم، ولو سأل أهل الذكر ابتداء ليزيل ما عرض له من شبهٍ ما استحق التعزير، ولكنه أعرض عن السؤال وتمادى في غيه، فاستحق التعزير العمري الذي أذهب ما كان يجده في رأسه!!!!.
يقول الآجري رحمه الله:
"فإن قال قائل: فمن يسأل عن تفسير: (والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا) استحق الضرب، والتنكيل به والهجرة قيل له: لم يكن ضرب عمر رضي الله عنه له بسبب هذه المسألة، ولكن لما تأدى إلى عمر ما كان يسأل عنه من متشابه القرآن من قبل أن يراه علم أنه مفتون، قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نفعه، وعلم أن اشتغاله بطلب علم الواجبات من علم الحلال والحرام أولى به، وتطلب علم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى به، فلما علم أنه مقبل على ما لا ينفعه، سأل عمر الله تعالى أن يمكنه منه، حتى ينكل به، وحتى: يحذر غيره؛ لأنه راع يجب عليه تفقد رعيته في هذا وفي غيره، فأمكنه الله تعالى منه". اهـ
فقد اشتغل صبيغ بالسؤال عما لا ينفع، وترك الاشتغال بطلب العلم النافع، وتلك مئنة من عدم الفلاح.
ولذلك أيضا، عيب على بعض أهل العلم كالإمام فخرالدين الرازي، رحمه الله، الذي توسع في عرض الشبهات، وكأنه يقررها، فإذا ما جاء أوان الرد: كان رده ضعيفا لا يضاهي توسعه الأول، وإلى ذلك أشار الحافظ، رحمه الله، في ترجمة الفخر، رحمه الله، في "لسان الميزان" بقوله: "وكان يعاب بإيراد الشبه الشديدة ويقصر في حلها حتى قال بعض المغاربة: يورد الشبه نقد ويحلها نسيئة". اهـ
ولذلك كان الأولى بالمكلف أن يشغل نفسه بتحصيل الحق، قبل أن يتصدى للنظر في الشبهات، فإن من نظر في الشبهات ابتداء لم يأمن أن تعلق بقلبه فيصير انتزاعها عسيرا، بخلاف من صرف همته إلى تحصيل المحكم ابتداء، فإن طروء الشبهات على محل محكم لا يضره.
*****
ومع مسألة: فوائد المتشابه:
أولا: فوائد المتشابه الذي يمكن علمه:أولا: حث العلماء على النظر الموجب للعلم بغوامضه والبحث عن دقائقه.
ثانيا: ظهور التفاضل وتفاوت الدرجات إذ لو كان القرآن كله محكما لا يحتاج إلى تأويل لاستوت منازل الخلق ولم يظهر فضل العالم على غيره.
ثالثا: الحصول على الثواب الأكبر، ذلك لأن المتشابه يوجب فهمه التعمق في معرفة النحو والمعاني وغيرهما والوقوف على أساليب العرب والعلوم الأخرى.
ثانيا: فوائد المتشابه الذي لا يمكن علمه:
أولا: ابتلاء العباد بالوقوف عنده، والتوقف فيه، والتفويض والتسليم، والتعبد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ وإن لم يجز العمل بما فيه.
ثانيا: استكمال جوانب التأثير في العقيدة، وذلك لتتوافر للعقيدة الصفة المهمة التي تجعلها عقيدة تملأ النفس، وتحوز الإعجاب.
ثالثا: إقامة الحجة على الناس جميعا بهذا الكتاب، الذي جاء بكل ما يتطلع إليه الناس أفرادا وجماعات سواء كان في العقيدة التي تنأى عن الخرافة والباطل، وتدعو إلى الإيمان بحقائق يدرك الناس بعضها ويعجز العقل البشري عن إدراك بعضها، أو كان في التشريع المتكامل أو في الحياة الروحية السامية التي أقامها بين الناس.
¥