والناس في المعجزة على ثلاثة أقوال:الأول: منع إجراء الخوارق على أيدي غير الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، لئلا تشتبه خوارق الكهان بمعجزات الأنبياء، وهذا قول المعتزلة، وقد وافقهم عليه بعض أهل العلم كابن حزم، رحمه الله، وحكي عن أبي إسحاق الإسفراييني وأبي محمد بن أبي زيد القيرواني، رحمه الله، صاحب "الرسالة" الشهيرة في الفقه المالكي المعروفة بـ: "رسالة ابن أبي زيد"، وقد ضعف ابن تيمية، رحمه الله، حكاية هذا القول عن الأخيرين في أول كتاب: "النبوات".
والثاني: على النقيض: يجوز وقوع المعجزة على يد الولي، فلا اختصاص للنبي بها، فكل ما جاز وقوعه معجزة لنبي، جاز وقوعه كرامة لولي، وهذا قول كثير من المتكلمين، فليس ثم فرق بين المعجزة والكرامة إلا التحدي، فالنبي يتحدى بها والولي لا يتحدى بها، وسبق الرد على ذلك فمن الأولياء من تحدى بكرامته كخالد رضي الله عنه، وأما الساحر أو الدجال، فإن تحدى بها عندهم: سلب القدرة عليها، وهذا أمر يشهد الواقع بخلافه، فكثير من الدجاجلة لبس على الناس بإظهار خوارق، فلم يسلب القدرة عليها: فتنةً وابتلاءً لمن صدقه، وإن ظهر كذبه بعد ذلك من جهة أخرى، فسنة الله، عز وجل، مطردة في فضح دعوى أولئك ولو بعد حين كما تقدم.
فليست كل خارقة معجزة أو كرامة، بل قد تقع فتنة وابتلاء، وفي الأثر:
قَالَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ: قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ: إِنَّ صَاحِبَنَا اللَّيْثَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَغْترُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَصَّرَ اللَّيْثُ رَحِمَهُ اللَّهُ، بَلْ إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ، فَلَا تَغْترُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَاب.
ولله در الليث والشافعي، رحمهما الله، فما ذلك التأصيل منهم بمستغرب، فهو كلام من رسخت قدمه في علوم الملة، وامتلأ جوفه بنصوص الكتاب والسنة.
بل إن الخارقة قد تقع إهانة لصاحبها كما وقع لمسيلمة الكذاب، لما بصق في بئر فغاض ماؤها ومسح على رؤوس أطفال فسقطت شعورهم!!!.
والثالث: هو قول أهل السنة: وهو سط بين الفريقين: فقد أثبت أهل السنة معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، ولكنهم لم يسووا بينهما، فكرامة الولي تابعة لمعجزة النبي، ولذلك كانت كل كرامة تقع لأحد أتباع الأنبياء شاهدة لصحة نبوته، فكل كرامة وقعت لولي من أولياء أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم هي شاهد على صدق رسالته الخاتمة.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "النبوات":
"إن آيات الأولياء هي من جملة آيات الأنبياء، فإنها مستلزمة لنبوتهم ولصدق الخبر بنبوتهم، فإنه لولا ذلك لما كان هؤلاء أولياء ولم تكن لهم كرامات". اهـ
فنصرة التابع دليل على صدق المتبوع.
والمعجزة، وإن كانت من جنس الكرامة، إلا أنها تباينها من جهة القدر، فقدر المعجزة أعظم من قدر الكرامة:
فإن تكثير الطعام ليكفي جيشا بأكمله معجزة، بينما تكثير الطعام ليكفي أضياف أبي بكر، رضي الله عنه، كرامة، فالجنس واحد: تكثير الطعام، ولكن القدر مختلف، أي اختلاف، فشتان بين إطعام جيش بأكمله وإطعام بضعة نفر.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"ومع هذا فالأولياء دون الأنبياء والمرسلين فلا تبلغ كرامات أحد قط إلى مثل معجزات المرسلين كما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب إلى درجاتهم ولكن قد يشاركونهم في بعضها كما قد يشاركونهم في بعض أعمالهم". اهـ
ويقول، رحمه الله، في موضع تال:
"ولا يقدر أحدٌ من مكذبي الرسل أن يأتي بمثل آيات الأنبياء، وأمّا مصدّقوهم فهم معترفون بأن ما يأتون به هو من آيات الأنبياء، مع أنه لا تصل آيات الأتباع إلى مثل آيات المتبوع مطلقاً، وإن كانوا قد يشاركونه في بعضها؛ كإحياء الموتى، وتكثير الطعام، والشراب؛ فلا يشركونه في القرآن، وفلق البحر، وانشقاق القمر؛ لأن الله فضل الأنبياء على غيرهم، وفضل بعض النبيين على بعض. فلا بُد أن يمتاز الفاضل بما لا يقدر المفضول على مثله؛ إذ لو أتى بمثل ما أتى، لكان مثله، لا دونه". اهـ
¥