فحتى معجزات الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وإن اشتركت في حد المعجزة الكلي إلا أنها تتفاوت تبعا لتفاوت منازلهم.
يقول القرطبي، رحمه الله، في معرض المقارنة بين انبجاس الماء من حجر موسى عليه الصلاة والسلام ونبوع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
"ما أوتي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من نبع الماء وانفجاره من يده وبين أصابعه أعظم في المعجزة فإنا نشاهد الماء يتفجر من الأحجار آناء الليل وآناء النهار ومعجزة نبينا عليه السلام لم تكن لنبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم يخرج الماء من بين لحم ودم! ". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 401).
وليس من شرط الكرامة أن تكون خارقة، بل إن الخوارق في العصور المتأخرة إنما تكثر في بلاد الترك والهند حيث لا نبوة، وكلما كانت الدار أقرب إلى النبوات قلت فيها خوارق العادات، كما حكى ذلك ابن تيمية، رحمه الله، في "رسالة التوسل"، فالشياطين التي تعين على الخوارق إنما تنشط في الأزمان والأمصار التي يخفت فيها نور الرسالة.
وقد تكون الكرامة بلزوم الاستقامة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
واشترط القرطبي، رحمه الله، للمعجزة خمسة شروط:
الشرط الأول: أن تكون مما لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى.
والشرط الثاني: هو أن تخرق العادة.
والشرط الثالث: هو أن يستشهد بها مدعى الرسالة على الله عز وجل.
وقد يرد على هذا الشرط ما تقدم من أن المعجزة لا يشترط فيها التحدي، بل قد تقع ابتداء، لمصلحة راجحة، كنبوع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عيه وعلى آله وسلم الشريفة وتكثير الطعام.
والشرط الرابع: هو أن تقع على وفق دعوى المتحدي بها المستشهد بكونها معجزة له، وإنما وجب اشتراط هذا الشرط لأنه لو قال المدعى للرسالة: آية نبوتي ودليل حجتي أن تنطق يدى أو هذه الدابة فنطقت يده أو الدابة بأن قالت: كذب وليس هو نبي فإن هذا الكلام الذي خلقه الله تعالى دال كذب المدعى للرسالة، لأن ما فعله الله لم يقع على وفق دعواه.
وكذلك ما يروى أن مسيلمة الكذاب لعنه الله تفل في بئر ليكثر ماؤها فغارت البئر وذهب ما كان فيها من الماء، فما فعل الله سبحانه من هذا، كان من الآيات المكذبة لمن ظهرت على يديه، لأنها وقعت على خلاف ما أراده المتنبئ الكذاب.
وتقدم الكلام على أن الخارقة قد تقع إهانة لصاحبها.
والشرط الخامس: ألا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدي على وجه المعارضة.
بتصرف من "الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 82، 83).
وأما إعجاز القرآن فقد عرفه بعض أهل العلم المعاصرين بقوله:
"تفرد القرآن الكريم بأسلوب خاص ونظم معين أعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله كله بصفة عامة أو حتى بمثل آية واحدة منه بصفة خاصة".
"التيسير في أصول التفسير"، ص133.
وقد حصر القرطبي، رحمه الله، إعجاز القرآن في عشرة أوجه:
الأول: النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفى غيرها، لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء، وكذلك قال رب العزة الذي تولى نظمه: "وما علمناه الشعر وما ينبغي له".
والثاني: الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب.
والثالث: الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال، وتأمل ذلك في سورة: "ق والقرآن المجيد" إلى آخرها، وقوله سبحانه: "والأرض جميعا قبضته يوم القيامة" إلى آخر السورة، وكذلك قوله سبحانه: "ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون" إلى آخر السورة.
قال ابن الحصار: فمن علم أن الله سبحانه وتعالى هو الحق، علم أن مثل هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيره ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول: "لمن الملك اليوم" ولا أن يقول: "ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء".
قال ابن الحصار: وهذه الثلاثة من: النظم، والأسلوب، والجزالة، لازمة كل سورة، بل هي لازمة كل آية، وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدي والتعجيز.
والرابع: التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي، حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه.
¥