تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالقرينة السياقية تدل على المعنى المراد إن كان اللفظ محتملا لأكثر من معنى، وهو ما اصطلح الأصوليون على تسميته بـ: "الظاهر" فيكون مجملا يفتقر إلى البيان، فتبينه القرينة بترجيح أحد المعاني على بقيتها، وهذا ما اصطلح بعض أهل العلم على تسميته بـ: "الظاهر المركب"، فهو مركب من: لفظ راجح في معنى مرجوح في آخر، وقرينة لفظية وردت في نفس سياقه كشفت عن مراد المتكلم به، فارتقى بها من مرتبة المحتمل إلى مرتبة القطعي، أو باصطلاح أهل الأصول: صار نصا قاطعا بعد أن كان ظاهرا محتملا، فليس بقطعي ابتداء، وإنما الشأن في القرينة كما تقدم.

ففي نحو قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ): يفسر الإتيان بالإتيان الذي يتبادر إلى ذهن المستمع دون خوض في كيفية، فإن العقول لا تطيق ذلك، أو تكلف تأويل الإتيان بإتيان الأمر، إذ لا قرينة من نفس السياق تدل على هذا التأويل، فيكتفى بإثبات الظاهر على الوجه اللائق بجلال الله، عز وجل، ولا يقال بأن في ذلك تشبيها للخالق، عز وجل، بالمخلوق، إذ الآية قد أثبتت الإتيان مقيدا بالله، عز وجل، لا بالمخلوق، والصفة تتبع موصوفها، إذ هي فرع عليه فلا قيام لها بنفسها خارج الذهن، فالعقل يدرك المعنى الكلي لـ: "الإتيان" وهو معنى مجرد عن الإضافة إلى آت بعينه، وإثبات هذا القدر لا يلزم منه التشبيه أو التكييف، وهو المطلوب في باب الغيبيات: كصفات الله، عز وجل، ونعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار ........... إلخ، فمن رحمة الله، عز وجل، بنا أنه لم يكلفنا البحث بعقولنا القاصرة في حقائق لا تطيقها، فإذا أدرك العقل ذلك المعنى الكلي المطلق انتقل إلى المعنى الجزئي المقيد، وهو المشاهد في الأعيان، فهذا إتيان زيد، وهذا إتيان عمرو ............. إلخ مما يطيق إدراكه، وذلك إتيان الله، عز وجل، وإتيان ملائكته ............. إلخ مما لا يطيق إدراكه، فاستوى الطرفان من جهة إدراك المعنى، واختلفا من جهة إدراك حقيقة الأول دون الثاني، إذ الأول: شهادة، والثاني: غيب، والعقول لا عمل لها في الغيبيات إلا التسليم والانقياد للخبر، إن صح، فمتى صح النقل سلم العقل، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، وأي خبر أصدق من خبر الله، عز وجل، و: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)؟!!.

وإذا كان الإتيان يختلف من آت إلى آخر حتى في عالم الشهادة، فإتيان زيد غير إتيان عمرو، وإن اشتركا في جنس الإنسانية، فكيف يصح في الأذهان تشبيه إتيان الخالق، عز وجل، الذي ليس كمثله شيء، بإتيان المخلوق، وكيف يتوهم متوهم أن في إثبات الإتيان لله، عز وجل، تشبيها بإتيان البشر؟!!، وإنما أتي من قبل قياسه العقلي الفاسد، إذ قاس الله، عز وجل، على خلقه، قياس: غائب على شاهد، وما أفسده من قياس!!!.

وأما في نحو قوله تعالى: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ)، فالإتيان: إتيان العذاب، ولا يقال بأن هذا تأويل، بل ذلك إجراء للفظ على ظاهره، ولكن: "المركب" بالنظر إلى السياق، لا "المفرد" بالنظر إلى ذات اللفظ ومعناه الذي وضع له مجردا عن أي قيد، فالسياق: سياق إخبار بهلاك المكذبين من الأمم السابقة، وهو قرينة من ذات السياق ترجح معنى إتيان العذاب، فكأن الإتيان هنا هو إتيان فعل الله، عز وجل، العذابَ بهم، لا إتيان ذاته، فعلى هذا يكون الإتيان جنسا كليا تندرج تحته أنواع: إتيان الذات، كما في الآية الأولى، وإتيان الصفات، كما في هذه الآية، إذ أفعال الله، عز وجل، من صفاته، فإهلاك المكذبين من أوصافه الفعلية المتعلقة بمشيئته النافذة، وخلو السياق من قرينة صارفة في الآية الأولى هو الذي حملنا على إجراء اللفظ على ظاهره كما يليق بالله، عز وجل، ووجودها في الآية الثانية هو الذي حملنا على ترجيح معنى إتيان الفعل أو الصفة الفعلية لا إتيان الذات القدسية لاستحالة ذلك في حق الباري، عز وجل، في هذا السياق

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير