وقال أبو الضحى: نزلت هذه الآية في أهل أحد خاصة. وقال بعضهم: نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا، ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين.
وقيل: نزلت في شهداء بئر معونة، وقصتهم مشهورة ذكرها محمد بن إسحاق وغيره". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (4/ 236، 237).
فهذه الأقوال، وإن ورد العام عليها، كأسباب نزول، إلا أنها لا تخصصه، فهي من قبيل: المثال، وذكر المثال لا يخصص العام، فإن الحكم في الآية قد علق على وصف القتل في سبيل الله، الذي اشتقت منه جملة الصلة: "الذين قتلوا"، وهو وصف لا يختص بالمذكورين بل يعم كل من قتل في سبيل الله.
ومنه أيضا: قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ):
فقد ورد في أسباب نزول هذه الآية أنها نزلت في النجاشي، رحمه الله، وهو معدود في طبقة المخضرمين الذين أسلموا زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يلقوه.
يقول القرطبي رحمه الله:
"قال جابر بن عبد الله وأنس وابن عباس وقتادة والحسن: نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي)، فقال بعضهم لبعض: يأمرنا أن نصلي على علج من علوج الحبشة، فأنزل الله تعالى: "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم" .............. وقال مجاهد وابن جريج وابن زيد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب، وهذا عام والنجاشي واحد منهم". اهـ بتصرف.
"الجامع لأحكام القرآن"، (4/ 285).
فذكر النجاشي، رحمه الله، وهو فرد من أفراد عموم المركب الإضافي: "أهل الكتاب" لا يخصصه، إذ هو من باب التعريف بالمثال، فتعم الآية كل من تحققت فيه الأوصاف المذكورة في الآية من أهل الكتاب من لدن نزولها إلى قيام الساعة.
ويشير إلى ذلك قول أبي السعود رحمه الله:
"قيل هم عبدُ اللَّهِ بنُ سلامٍ وأصحابُه وقيل هم أربعون من أهل نجرانَ واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانيةٌ من الروم كانوا نصارى فأسلموا، وقيل المرادُ به أصحْمةُ النجاشيُّ فإنه لما مات نعاه جبريلُ إلى النبي عليه فقال عليه السلام: «أخرُجوا فصلُّوا على أخٍ لكم ماتَ بغير أرضكم»، فخرج إلى البقيع فنظر إلى أرض الحبشةِ فأبصر سريرَ النجاشيِّ وصلى عليه واستغفر له، فقال المنافقون انظُروا إلى هذا يصلي على عِلْج نصراني لم يرَه قطُّ وليس على دينه، فنزلت". اهـ
فاختلاف الأفراد المذكورين: عبد الله بن سلام، رضي الله عنه، وأهل نجران، والنجاشي: دليل على عدم اختصاص النجاشي، رحمه الله، بعموم هذه الآية، وإن وردت عليه، فدخوله فيها قطعي لا يقبل التخصيص، لأنه سببها، بخلاف بقية الأفراد فدخولها فيه ظني يقبل التخصيص، وإن كان الأصل في العام: حمله على العموم حتى يرد دليل التخصيص، كما تقدم، فلا يتوقف فيه حتى يرد المخصِص، وإنما يعمل به حتى يرد المخصِص، على الراجح من أقوال الأصوليين، فيخرج المخصَص من الحكم بدليل معتبر، لا بتخرص أو تحكم لا دليل عليه.
ومنه قوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ):
يقول ابن الجوزي، رحمه الله، في "زاد المسير":
" {الذين آتيناهم الكتاب} وفيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم مؤمنو أهل الكتاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
والثاني: مسلمو أهل الإنجيل، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أربعين من أصحاب النجاشي قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدوا معه أُحُداً، فنزلت فيهم هذه الآية.
والثالث: مسلمو اليهود، كعبد الله بن سلام وغيره، قاله السدي". اهـ
ولا مانع من دخول أولئك، ودخول كل مؤمن من أهل الكتاب عرف الحق فاتبعه، فذكر أولئك من باب التمثيل للعام ببعض أفراده، كما تقدم.
¥