فسبب النزول أحد أفراد عموم الآية فلا يخصصه، وإن كان قطعي الدخول فيه، كما تقدم، فإن الطاغوت كل ما عبد من دون الله، عز وجل، أيا كانت عينه، أو هو مشتق من الطغيان، فحده كما ذكر بعض أهل العلم: ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، وتلك أوصاف عامة لا تختص بكعب بن الأشرف أو ذلك الكاهن من جهينة، بل تعم كل من تحققت فيه.
ومنه قوله تعالى: (وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)
فسبب نزولها: ما كتمه اليهود من نبأ محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم حرصا على مكاسبهم ومطاعهم.
ولا يختص النص بسبب النزول، فهو فرد من أفراد عمومه: فلا يخصصه، فيعم كل كاتم للعلم حرصا على عرض الدنيا الزائل.
يقول القرطبي رحمه الله:
"نهاهم عن أن يكونوا أول من كفر وألا يأخذوا على آيات الله ثمنا أي على تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم رشى.
وكان الأحبار يفعلون ذلك فنهوا عنه قاله قوم من أهل التأويل منهم الحسن وغيره.
وقيل: كانت لهم مآكل يأكلونها على العلم كالراتب فنهوا عن ذلك.
وقيل: إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك.
وفى كتبهم: يابن آدم علم مجانا كما علمت مجانا أي باطلا بغير أجرة قاله أبو العالية.
وقيل: المعنى ولا تشتروا بأوامري ونواهي وآياتي ثمنا قليلا يعني الدنيا ومدتها والثمن الذي هو نزر لا خطر له فسمي ما اعتاضوه عن ذلك ثمنا لأنهم جعلوه عوضا فانطلق عليه اسم الثمن وإن لم يكن ثمنا .............. قلت (أي: القرطبي رحمه الله): وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم. فمن أخذ رشوة على تغيير حق أو إبطاله أو امتنع من تعليم ما وجب عليه أو أداء ما علمه وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجرا فقد دخل في مقتضى الآية. والله أعلم.
وقد روى أبو داود عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) يعنى ريحها". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 321).
ومنه أيضا:
قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ).
يقول القرطبي رحمه الله: "وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى - حسب ما هو مشهور في سيرة ابن إسحاق وغيره - خوفا من المشركين وفتنتهم، وكانوا ذوي عدد". اهـ
ونزولها في الموحدين من النصارى من أمثال النجاشي لا يعني قصر عمومها عليهم، فالعام الوارد على سبب لا يختص بسببه، إذ هو فرد من أفراده، وذكر بعض أفراد العام لا يخصصه، كما تقدم، فتشمل كل من ثاب إلى دين الإسلام من النصارى في كل زمان ومكان.
ومنه أيضا:
قوله تعالى: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
يقول القرطبي رحمه الله:
"قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون) أخبر أن قوما ممن أوتوا الكتاب من بني إسرائيل من قبل القرآن يؤمنون بالقرآن، كعبد الله بن سلام وسلمان.
ويدخل فيه من أسلم من علماء النصارى، وهم أربعون رجلا، قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة، اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة، وثمانية نفرا أقبلوا من الشام وكانوا أئمة النصارى: منهم بحيراء الراهب وأبرهة والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع. كذا سماهم الماوردي. وأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية والتي بعدها: "أولئك يوتون أجرهم مرتين بما صبروا"، قاله قتادة.
وعنه أيضا: أنها أنزلت في عبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي، أسلموا فنزلت فيهم هذه الآية.
وعن رفاعة القرظي: نزلت في عشرة أنا أحدهم.
¥