تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالضمير المستكن في: "زكى" إما أن يرجع إلى المكلف فهو الذي يزكي نفسه بالطاعات أو إلى الله، عز وجل، فهو الذي يزكي من شاء من عباده فضلا ومنة، ويضل من يشاء بقطع أسباب التزكية عنه فلا تحصل له عدلا وحكمة.

وقوله تعالى: (الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)

فالضمير في: "به" راجع إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو أعلم الناس بربه، عز وجل، أو راجع إلى القرآن الكريم ففيه أصدق الأخبار عن الله عز وجل.

وإلى طرف من ذلك أشار ابن كثير، رحمه الله، بقوله:

"وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} أي: استعلم عنه من هو خبير به عالم به فاتبعه واقتد به، وقد عُلِم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه، على سيد ولد آدم على الإطلاق، في الدنيا والآخرة، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى - فما قاله فهو حق، وما أخبر به فهو صدق، وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء، وجب ردّ نزاعهم إليه، فما يوافق أقواله وأفعاله فهو الحق، وما يخالفها فهو مردود على قائله وفاعله، كائنا من كان، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ................. وقال شمر بن عطية في قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} قال: هذا القرآن خبير به". اهـ بتصرف.

"تفسير القرآن العظيم"، (6/ 128، 129).

وأشار أبو السعود، رحمه الله، إلى وجهين آخرين فقال:

"التَّقديرُ: إنْ شئتَ تحقيقَ ما ذُكر أو تفصيلَ ما ذُكر فاسألْ معنيًّا بهِ {خَبِيراً} عظيمَ الشَّأنِ محيطاً بظواهرِ الأمورِ وبواطِنها وهو الله سبحانَه يُطلعك على جليَّةِ الأمرِ. وقيل: فاسألْ به مَن وجدَهُ في الكتبِ المتقدِّمةِ ليصدُقكَ فيه فلا حاجةَ حينئذٍ إلى ما ذَكرنا". اهـ

وهي كلها معان متقاربة، فالله، عز وجل، أعلم بنفسه وما يليق به من أوصاف الكمال المطلق، ونبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلم الخلق به، والوحي أصدق الأخبار عنه، وأهل الذكر أعلم الناس بالوحي المنزل بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فصار المعنى في هذا الموضع على وزان قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)

&&&&&

ومن هذا الباب أيضا: الاشتراك في آيات تحتمل أكثر من معنى لإطلاق ألفاظها، فلو قيدت لزال إجمالها، ولكنها وردت مطلقة فاحتملت أكثر من معنى لا يمكن الجمع بينها، كما في قوله تعالى: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، فهي تحتمل: ليالي العشر الأواخر من رمضان، وليالي العشر من ذي الحجة.

وكذلك إذا كان اللفظ من قبيل المشترك المعنوي أو المتواطئ الذي يجمع المعنيين فيه أصلٌ كلي مشترك كما في لفظ "مع":

فالمعية في اللغة: مطلق المصاحبة، وهذا هو الأصل الكلي الجامع لكل مواردها، فهي جنس تحته أنواع، فإذا ما قيدت بأحد أنواعها: صار المعنى الخاص مقيدا بذلك، فمعية الاطلاع، غير معية النصرة والتأييد، غير معية المخالطة والامتزاج ............ إلخ.

وهذا باب يستحق، أيضا، الاستقراء والإفراد بالبحث.

&&&&&

وقد يتعذر حمل المشترك على كل معانيه، لاسيما إن كان من "الأضداد" كـ:

"القرء" في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)، فالقرء في اللغة يطلق على المدة المعتادة، وفي الاصطلاح: الطهر على قول الجمهور، والحيض على قول الأحناف، رحمهم الله، وهما متناقضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإما طهر وإما حيض، وإن جمعهما المعنى الكلي المطلق من جهة كون كليهما: مدة معلومة معتادة تعلمها كل امرأة من نفسها.

وكذلك: الفعل: "عسعس": في قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ)، فـ: "عسعس" بمعنى: أقبل وأدبر، فهو من الأضداد أيضا.

قال في "لسان العرب":

"عَسْعَسَ الليل إِذا أَقبل بظلامه وإِذا أَدبر فهو من الأَضداد ومنه حديث قُسّ حتى إِذا الليل عَسْعَسَ وكان أَبو عبيدة، (وهو: معمر بن المثنى)، يقول عَسْعَس الليل أَقبل وعَسْعَسَ أَدبر". اهـ بتصرف.

وقد يدخل في مثل هذا النوع:

الحروف التي تدل على عدة معان لا يمكن الجمع بينها:

كـ: "من" فهي من أشهر المشتركات الحرفية، إن صح التعبير، فلها من المعاني، ما حمل بعض أهل العلم على إفرادها بمبحث مستقل، كما صنع ابن هشام، رحمه الله، في نهاية الجزء الأول من "مغني اللبيب".

وإن كانت كلها، عند التحقيق، ترجع إلى معنى واحد هو: ابتداء الغاية، مع اختلافها، فقد تكون غاية: مكانية، كقولك: سافرت من مكة، أو زمانية: كقول الفقهاء: وقت صلاة كذا من وقت كذا إلى وقت كذا.

وحتى "من" التي لا تدل على ابتداء الغاية مطابقة، فإنها تدل عليها لزوما، من قبيل:

"من" التبعيضية: كقولك: أكلت من الطعام، فهي تبعيضية نصا، غائية لزوما، لوجوب ابتداء غاية الأكل من الطعام المأكول نفسه إذا مدت الأيدي إليه، ورفعت إلى الأفواه به.

و "من" السببية: كقوله تعالى: (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، أي: من أجل أمر الله، أو به، فتكون مرادفة لباء السببية كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فابتداء الأمر بحفظ المكلف من الله، عز وجل، فيكون معنى ابتداء الغاية فيها من هذا الوجه.

و: "من" التي لبيان الجنس: كقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ)، أي: من جنسهم، ففيها، أيضا، منى ابتداء الغاية، لأن ابتداء غاية المغفرة لا يقع إلا على هذا الجنس المغفور له.

الشاهد من ذلك أن الإجمال بالاشتراك قد يقع في الحروف أيضا، كوقوعه في "من" في قوله تعالى: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ)، فتحتمل "من": التبعيض، فيلزم أن يعلق باليد شيء من الصعيد، وتحتمل مجرد ابتداء الغاية فلا يلزم أن يعلق باليد شيء من الصعيد، فيكفي تحقق الصورة الحكمية، لأن التيمم في حد ذاته، طهارة حكمية غير معقولة المعنى.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير