"يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد اللّه بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا". اهـ، ثم ذكر آثارا في ذلك.
"شرح مقدمة أصول التفسير"، ص16، 17.
وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أنه، عليه الصلاة والسلام، فسر جملة من آي الكتاب العزيز، ولكنه لم يستوعب القرآن تفسيرا، ومن أدلة أصحاب هذا القول:
ما رواه الطبري، رحمه الله، من طريق: جعفر بن خالد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يفسر شيئًا من القرآن، إلا آيًا بعَددٍ، علمهنّ إياه جبريل عليه السلام.
قال الشيخ أحمد شاكر، رحمه الله، في حاشية تفسير الطبري رحمه الله:
"الحديث 90، 91 – (أي: الحديث المتقدم): هو بإسنادين، ونقلهما ابن كثير في التفسير 1: 14 - 15 عن الطبري، وقال: (حديث منكر غريب. وجعفر هذا: هو ابن محمد بن خالد بن الزبير العوام القرشي الزبيري، قال البخاري: لا يتابع في حديثه. وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي: منكر الحديث) ". اهـ
واستدلوا أيضا بأن تفسير النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لآي الكتاب كلها يغلق باب الاجتهاد بعده، فلا يكون لأمثال ابن عباس، رضي الله عنهما، فضل على بقية المفسرين ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم له: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل).
فلم يكن صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفسر الآيات تباعا كما يفعل المصنفون المتأخرون، وإنما فسر ما أشكل على الصحابة، رضي الله عنهم، وقامت الحاجة إلى بيانه، إما:
ابتداء: كما في حديث عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}: أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ.
فوقع بيان القوة من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ابتداء على اصطلاح من لا يشترط في البيان: تقدم إشكال، وهو مذهب جماعة من أهل الأصول.
وقد وقع البيان هنا بأوفى عبارة: فاستفتح الكلام بـ: "ألا" تنبيها، وأكد الكلام بـ: "إن"، واسمية الجملة، وتعريف جزأيها: "القوة" و "الرمي"، وتكرارها ثلاث مرات، فأي بيان أوفى من ذلك؟!!.
أو بعد ورود إشكال: وهذا محل إجماع بين أهل الأصول، كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود، رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ قَالَ لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ: {لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}: بِشِرْكٍ أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
فالصحابة، رضي الله عنهم، وهم أهل اللسان حملوا الظلم في الآية على حقيقته اللغوية المعهودة، وهي تشمل كل صور الظلم: من ظلم الإنسان نفسه بالشرك والمعاصي وظلم غيره، فخص صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الحقيقة اللغوية ببعض أفرادها، فالظلم في هذا السياق هو فرد بعينه من أفراد عموم الظلم، وهو أعلاها: الشرك بالله، فحقيقته الشرعية في هذا السياق أخص من حقيقته اللغوية، وقد تقرر في الأصول أن: الحقيقة الشرعية: حقيقة لغوية مقيدة، ولا يصح تخصيص الحقائق اللغوية في الشرعيات إلا بتوقيف منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو المبلغ عن ربه، عز وجل، تماما، كما يقال في الحقائق العرفية العامة أو الخاصة، فإن المرجع في بيانها إلى العرف العام أو الخاص، فمن أراد بيان معنى "الفاعل" في علم النحو، على سبيل المثال، فإنه لا
¥