"فإن قال قائل: فمن يسأل عن تفسير: (والذاريات ذروا فالحاملات وقرا)، استحق الضرب، والتنكيل به والهجرة؟.
قيل له: لم يكن ضرب عمر رضي الله عنه له بسبب عن هذه المسألة، ولكن لما بلغ عمر، رضي الله عنه، ما كان يسأل عنه من متشابه القرآن من قبل أن يراه علم أنه مفتون، قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نفعه، وعلم أن اشتغاله بطلب علم الواجبات من علم الحلال والحرام أولى به، وتطلب علم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى به، فلما علم أنه مقبل على ما لا ينفعه، سأل عمر رضي الله عنه الله ربه أن يمكنه منه، حتى ينكل به، وحتى: يحذر غيره؛ لأنه راع يجب عليه تفقد رعيته في هذا وفي غيره، فأمكنه الله عز وجل منه.
وقد قال عمر رضي الله عنه: سيكون أقوام يجادلونكم بمتشابه القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل". اهـ
"الشريعة"، ص65.
وكان عمر، رضي الله عنه، دؤوباً عظيم الهمة في: تعلم السنة وأحكامها، فسلك مسلك التناوب مع جاره الأنصاري، فكان يغدو إلى مجلس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوما، ويغدو صاحبه يوما، لئلا يفوته من حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيء.
وبوب البخاري، رحمه الله، في صحيحه: "باب التناوب في العلم"، وأورد حديث عمر رضي الله عنه: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ .............. الحديث.
وكان يوصي بتعلم السنة، فأثر عنه قوله: «تعلموا الفرائض والسنة واللحن كما تعلمون القرآن».
وهو الذي حذر مما وقع فيه المتأخرون من معارضة السنن بالرأي، فأثر عنه، كما عند الدارقطني رحمه الله في "السنن"، قوله: (إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْىِ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ أَعْيَتْهُمُ الأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِالرَّأْىِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)، وليس هذا مسلك من يقدم علوم الأوائل نقلية كانت أو عقلية على علوم الإسلام الأثرية.
فضلا عن كونه من المكثرين من رواية الحديث فهو من أصحاب المئين، (روى نحو: 539 حديثا)، وهذا مما يدل على اهتمامه بتحصيل سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وليس ذلك من سمات من يديم النظر في علوم الأوائل فإنه يكتفي بما عندهم، وإن كان غثا، فيستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، كحال أرباب الفلسفة والكلام أصحاب البضاعة النقلية المزجاة، فإن النفوس إذا تغذت بغير علوم الإسلام زهدت فيها فلا تتعاطاها إلا بتجشم، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام، رحمه الله، في مواضع من كتبه.
ولم يلزم عمر، رضي الله عنه، أحدا برأيه، إذ قوله، وإن كان مقدما لسعة علمه وعظم منزلته، كقول بقية المجتهدين: يحتمل الخطأ، لعدم بلوغ الدليل، أو بلوغه وعدم ثبوته، أو ............ إلخ.
فعن عُمَرَ أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ: مَا صَنَعْت؟ قَالَ: قَضَى عَلِيٌّ وَزَيْدٌ بِكَذَا، قَالَ: لَوْ كُنْت أَنَا لَقَضَيْت بِكَذَا، قَالَ: فَمَا مَنَعَك وَالْأَمْرُ إلَيْك؟ قَالَ: لَوْ كُنْت أَرُدُّك إلَى كِتَابِ اللَّهِ أَوْ إلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفَعَلْت، وَلَكِنِّي أَرُدُّك إلَى رَأْيٍ، وَالرَّأْيُ مُشْتَرَكٌ". اهـ
قال أبو عمر بن عبد البر، رحمه الله، في "جامع بيان العلم وفضله":
"ولم ينقض ما قال علي وزيد وهو يرى خلاف ما ذهبا إليه فهذا كثير لا يحصى". اهـ
فلم يدع عمر، رضي الله عنه، لنفسه عصمة، ولم ينقض رأي غيره برأيه، فإن قوله ليس حجة بنفسه حتى يوافق نص الوحي المنزل، فهو الذي يحتج به مطلقا.
¥