وكما ظهرت مدرسة الحديث الفقهية في أرض الحجاز مهد الرسالة وموطن الآثار النبوية، ظهرت مدرسة التفسير الأثرية، فعمدة كليهما ما صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحبه الكرام رضي الله عنهم.
وكانت الرواية في أولها: شفوية، فلم يكتب الصحابة، رضي الله عنهم، في أول الأمر غير القرآن، كما في حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، ثم نسخ النهي كما ذكر ذلك ابن قتيبة، رحمه الله، وصارت الكتابة جائزة، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ)، وانعقد الإجماع العملي المتواتر، كما حكاه ابن الصلاح رحمه الله في مقدمة علوم الحديث، من لدن صدر الأمة إلى يومنا هذا على جواز تدوين العلوم، بل على وجوبه في بعض الأحيان.
ومن ترجمة عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، في "سير أعلام النبلاء":
"يحيى بن أيوب، عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو، قال: كنا عند رسول الله نكتب ما يقول.
هذا حديث حسن غريب رواه سعيد بن عفير عنه.
وهو دال على أن الصحابة كتبوا عن النبي صلى الله عليه وسلم بعض أقواله، وهذا علي رضي الله عنه، كتب عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في صحيفة صغيرة، قرنها بسيفه.
وقال عليه السلام: "اكتبوا لأبي شاه".
وكتبوا عنه كتاب الديات.
وفرائض الصدقة وغير ذلك.
ابن إسحاق: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله! أكتب ما أسمع منك؟ قال: "نعم" قلت: في الرضى والغضب؟ قال: "نعم، فإني لا أقول إلا حقا"
وثبت عن عمرو بن دينار، عن وهب بن منبه، عن أخيه همام، سمع أبا هريرة يقول: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب .................
أبو النضر هاشم بن القاسم، وسعدويه، قالا: حدثنا إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن مجاهد، قال: دخلت على عبد الله بن عمرو، فتناولت صحيفة تحت رأسه، فتمنع علي. فقلت: تمنعني شيئا من كتبك؟ فقال: إن هذه الصحيفة الصادقة التي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه أحد، فإذا سلم لي كتاب الله وهذه الصحيفة والوهط، لم أبال منا ضيعت الدنيا". اهـ بتصرف.
ولم تكن الكتابة في هذا العصر مرادة لذاتها، بل كانت لمجرد الحفظ والإتقان، ولذلك حرق من حرق من السلف كتبهم، لأنهم حفظوا ما دونوه، فلم يعد للكتب حاجة، فحرقوها خشية أن تقع في يد محرف يعبث بها.
وكان هذا التصرف، تصرفا فرديا من آحاد الصحابة والتابعين، فلم يلزم أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، على سبيل المثال، وهو ممن حرق كتبه، أحدا بذلك، رغم أنه كان الخليفة المطاع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصلنا إنكاره على أحد من الصحابة كتابته، وهذا يؤكد أن الكتابة في هذه الفترة كانت، كما تقدم، للحفظ فقط، فبمجرد إتقان ما فيها من أحاديث تزول الحاجة إليها، وبالتالي يصبح إحراقها أمرا سائغا، وهذا يعني أن ما فيها لم يفقد كما يدعي البعض، وإنما انتقل من حفظ السطور إلى حفظ الصدور، وهو أقوى، كما قرر ذلك علماء الحديث والأصول، فقد أجمع المحدثون على أن الرواية المأخوذة عن حفظٍ (مع عدالة الناقل) أعلى مرتبة من الرواية بالمكاتبة.
كما اتفق الأصوليون عند الكلام على طرق ترجيح الأخبار أنه إذا تعارض خبران وكان أحدهما مرويا بالسماع والآخر مرويا بالكتابة ترجح الخبر المروي سماعا.
وحديث إحراق أبي بكر، رضي الله عنه، لصحفه، ذكره الحافظ الذهبي، رحمه الله، في "تذكرة الحفاظ" في آخر ترجمته فقال:
¥