وبعد ذلك بدأ التفسير في الاستقلال، وكان كالحديث وسائر علوم الشريعة في ذلك الوقت، أثريا يروى بالإسناد، وظهر في تلك الآونة أشهر وأجمع تفسير أثري، وهو: تفسير الطبري، رحمه الله، وهو عمدة في رواية آثار السلف في تفسير الكتاب العزيز، وإن لم ينقحه صاحبه من الروايات الضعيفة، لأنه قصد الجمع لا التحقيق كما صرح في مقدمة كتابه.
وبعد ذلك ظهرت مصنفات أثرية عني أصحابها بتنقيح تراث الأولين كما فعل الحافظ ابن كثير، رحمه الله، في تفسيره، فإنه يعتبر بمنزلة الاختصار والتجريد لصحيح تفسير الطبري.
وقد عد بعض أهل العلم: تفسير الطبري، وتفسير البغوي، وتفسير ابن كثير، رحم الله الجميع، عمدة تفاسير أهل السنة الأثرية.
ثم ظهر في مرحلة متأخرة: تفاسيرعنيت بجمع الأقوال بلا أسانيد فوقع فيها من الدغل ما وقع.
يقول الشيخ مناع القطان رحمه الله:
"ثم انتصبت طبقة بعدهم، (أي بعد المفسرين الذين يرون بالإسناد): صنفت مشحونة بالفوائد اللغوية، ووجوه الإعراب، وما أثر في القراءات بروايات محذوفة الأسانيد، وقد يضيف بعضهم شيئا من رأيه، مثل أبي إسحاق الزجاج، وأبي علي الفارسي، وأبي بكر النقاش، وأبي جعفر النحاس.
ثم ألف في التفسير طائفة من المتأخرين: فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال: فدخل من هنا الدخيل، والتبس الصحيح بالعليل.
ثم صار كل من سنح له قول يورده: ومن خطر بباله شيء يعتمده، ثم ينقل ذلك عنه من يجيء بعده ظانا أن له أصلا، غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح، ومن هم القدوة في هذا الباب _ قال السيوطي رحمه الله: رأيت من حكى في تفسير قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) نحو: عشرة أقوال، وتفسيرها باليهود والنصارى هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة والتابعين وأتباعهم، حتى قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في ذلك اختلافاً بين المفسرين". اهـ
"مباحث في علوم القرآن"، ص315.
وإلى ذلك أشار القرطبي رحمه الله بقوله: "اختلف في: "المغضوب عليهم"، و "الضالين" من هم:
فالجمهور أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى، وجاء ذلك مفسرا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم وقصة إسلامه، أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، والترمذي في جامعه، (من حديث عدي بن حاتم، رضي الله عنه، وفيه: فَإِنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَإِنَّ النَّصَارَى ضُلَّالٌ، ولفظ الطيالسي رحمه الله: فإن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون)، وشهد لهذا التفسير أيضا قوله سبحانه في اليهود: "وباءوا بغضب من الله" [البقرة: 61 وآل عمران: 112].
وقال: "وغضب الله عليهم" [الفتح: 6] وقال في النصارى: "قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل" [المائدة: 77].
وقيل: "المغضوب عليهم": المشركون، و: "الضالين" المنافقون.
وقيل: "المغضوب عليهم" هو من أسقط فرض هذه السورة في الصلاة، و: "الضالين" عن بركة قراءتها.
حكاه السلمي في حقائقه والماوردي في تفسيره، وليس بشيء.
قال الماوردي: وهذا وجه مردود، لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار وانتشر فيه الخلاف، لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم.
وقيل: "المغضوب عليهم" باتباع البدع، و: "الضالين" عن سنن الهدى.
قلت، (أي: القرطبي رحمه الله): وهذا حسن، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأعلى وأحسن". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 157).
فإن الرواية مقدمة على الرأي في هذا الباب، فلا اجتهاد مع النص، فإذا صح النقل سلم العقل.
ومن مهمات هذا الباب:
دفع شبه من قبيل:
أولا: اتهام جولدسيهر ابن عباس، رضي الله عنهما، بالأخذ عن بني إسرائيل، والإكثار من نقل أخبارهم في مادته التفسيرية، وهو الاتهام الذي تابعه عليه الأستاذ: أحمد أمين في "فجر الإسلام".
¥