تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إذا رجعنا إليهما وحاولنا السير على طريقة الجمهور في التعامل مع الروايات المتعارضة اتضح أنه:

لا يمكن الجمع بينهما، لأنه يستحيل أن يكون الذبيح: إسماعيل وإسحاق عليهما الصلاة والسلام معا.

ولا يمكن القول بنسخ أحدهما للآخر، لأنهما خبران، والخبر، كما تقدم، لا يقبل النسخ.

فلم يبق إلا الترجيح، وهو الصواب في هذه المسألة، فإن الرواية المرفوعة التي ورد فيها أن الذبيح هو إسحاق السلام ضعيفة جدا إذ هي من طريق: الحسن بن دينار عن علي بن زيد. والحسن بن دينار متروك، وعلي بن زيد منكر الحديث كما ذكر الحافظ ابن كثير، رحمه الله، في تفسيره.

مذكرة: "المدخل إلى علم التفسير"، ص178.

ونص كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله:

"فصل في ذكر الآثار الواردة عن السلف في أن الذبيح من هو؟:

ذكر من قال: هو إسحاق عليه السلام: ثم ذكر آثارا في ذلك عقبها بقوله: وهذه الأقوال - والله أعلم - كلها مأخوذة عن كعب الأحبار، فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر، رضي الله عنه عن كتبه، فربما استمع له عمر، رضي الله عنه، فترخص الناس في استماع ما عنده، ونقلوا عنه غثها وسمينها، وليس لهذه الأمة - والله أعلم - حاجة إلى حرف واحد مما عنده ................ وقد ورد في ذلك حديث - لو ثبت لقلنا به على الرأس والعين، ولكن لم يصح سنده - قال ابن جرير:

حدثنا أبو كريب، حدثنا زيد بن حباب، عن الحسن بن دينار، عن علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره قال: هو إسحاق.

ففي إسناده ضعيفان وهما: الحسن بن دينار البصري، متروك. وعلي بن زيد بن جدعان منكر الحدث. وقد رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن مسلم بن إبراهيم، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، به مرفوعا. ثم قال: قد رواه مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن الأحنف، عن العباس من قوله، وهذا أشبه وأصح". اهـ

ومن ترجمة الحسن بن دينار في "ميزان الاعتدال":

"قال ابن حبان: تركه وكيع، وابن المبارك، فأما أحمد ويحيى فكانا يكذبانه.

قال عباس، (وهو: الدوري): سمعت يحيى، (وهو: ابن معين) يقول: الحسن بن دينار ليس بشيء.

وحدث عنه أبو داود بأصبهان، فجعل يقول: حدثنا الحسن بن واصل، (وهو نفسه ابن دينار)، وما هو عندي من أهل الكذب، لكن لم يكن بالحافظ.

وقال ابن المبارك: اللهم لا أعلم إلا خيرا، ولكن وقف أصحابي فوقفت". اهـ بتصرف.

ولا شك أن قول ابن معين، رحمه الله، إمام الجرح والتعديل عمدة في مثل هذه المواضع فلا يعارض بقول أبي داود وابن المبارك، رحمهما الله، مع أن في كلامهما إشعارا بالجرح من جهة الضبط.

ومن ترجمة علي بن زيد في "ميزان الاعتدال":

"وقال شعبة: حدثنا علي بن زيد - وكان رفاعا، (أي: يخطئ برفع الموقوفات).

وقال مرة: حدثنا علي قبل أن يختلط.

وكان ابن عيينة يضعفه.

وقال حماد بن زيد: أخبرنا على بن زيد - وكان يقلب الأحاديث، (والقلب إن فعله صاحبه عمدا فهو سارق، وإن فعله سهوا فهو مما يقدح في حفظه سواء أوقع ذلك في المتن أم في السند).

وقال الفلاس: كان يحيى القطان يتقي الحديث عن على بن زيد. (وقد علم تشدد يحيى، رحمه الله، وتحريه في الرجال).

وقال أحمد: ضعيف.

وروى عثمان بن سعيد، عن يحيى: ليس بذاك القوي.

وروى عباس - عن يحيى: ليس بشيء.

وقال في موضع آخر: هو أحب إلى من ابن عقيل ومن عاصم بن عبيد الله.

وقال أحمد العجلي: كان يتشيع، وليس بالقوي.

وقال البخاري، وأبو حاتم: لا يحتج به.

وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، هو أحب إلى من يزيد بن أبي زياد.

وقال الفسوي: اختلط في كبره.

وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه". اهـ

فالأقوال شبه مجمعة على ترك الاحتجاج به، وإنما أشار أبو حاتم، رحمه الله، بقوله: "يكتب حديثه" إلى كون روايته مما يستشهد بها فلا يحتج بها ابتداء حتى يرد ما يعضدها، فترتقي إلى درجة الحسن لغيره بالمتابعة.

ثم عقد ابن كثير، رحمه الله، بابا في: " [ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل - عليه السلام - وهو الصحيح المقطوع به]

قد تقدمت الرواية عن ابن عباس أنه إسحاق. قال سعيد بن جبير، وعامر الشعبي، ويوسف بن مهران، ومجاهد، وعطاء، وغير واحد، عن ابن عباس، هو إسماعيل عليه السلام.

وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنه قال: المفدي إسماعيل، عليه السلام، وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود.

وقال إسرائيل، عن ثور، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: الذبيح إسماعيل". اهـ بتصرف.

فهذا نص ممن اختلف عليه يقطع بأن الذبيح هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام، فما ورد عن ابن عباس، رضي الله عنهما، موقوفا، من أن الذبيح هو: إسحاق، عليه الصلاة والسلام، محمول على أنه كان يرى ذلك في أول الأمر ثم رجع عنه إلى قول الجمهور.

ورواية الحسن بن دينار كلا رواية، فلا تعارض أصلا، كما حاول جولدسيهر أن يوهم، لأن التعارض لا يقع إلا بين روايتين صحيحتين، لا بين رواية صحيحة يؤيدها صريح القرآن وأخرى واهية.

ومن الملامح الأصيلة في منهج أهل البدع والأهواء: الاستشهاد بضعيف الحديث المتشابه، والإعراض عن صحيحه المحكم.

واتباع نهج أهل العلم في التعامل مع الروايات المتعارضة، أو التي ظاهرها التعارض أصل في مثل هذه المضائق:

فالجمع أولا: ما استطعنا إلى ذلك سبيلا إذ إعمال الأدلة أولى من إهمالها.

فإن تعذر فالنسخ ثانيا: إذا علم المتقدم من المتأخر، فالمتأخر ينسخ المتقدم.

فإن لم يعلم المتقدم من المتأخر: فالترجيح بأحد أوجه الترجيح التي قررها أهل العلم، وصنف فيها أمثال الحازمي رحمه الله.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير