"تعلق بهذه الآية من أجاز للمملوك أن يتزوج أربعا، لأن الله تعالى قال: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) يعني ما حل، (مثنى وثلاث ورباع) ولم يخص عبدا من حر.
وهو قول داود والطبري وهو المشهور عن مالك وتحصيل مذهبه على ما في موطئه، وكذلك روى عنه ابن القاسم وأشهب.
وذكر ابن المواز أن ابن وهب روى عن مالك أن العبد لا يتزوج إلا اثنتين، قال وهو قول الليث.
قال أبو عمر: قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والليث بن سعد: لا يتزوج العبد أكثر من اثنتين، وبه قال أحمد وإسحاق.
وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف في العبد لا ينكح أكثر من اثنتين، ولا أعلم لهم مخالفا من الصحابة.
وهو قول الشعبي وعطاء وابن سيرين والحكم وإبراهيم وحماد.
والحجة لهذا القول القياس الصحيح على طلاقه وحده.
وكل من قال حده نصف حد الحر، وطلاقه تطليقتان، وإيلاؤه شهران، ونحو ذلك من أحكامه فغير بعيد أن يقال: تناقض في قوله (ينكح أربعا) والله أعلم". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (5/ 21).
ومن ملامح انصافه في عرض الأقوال في المسألة الواحدة:
عرضه لأقوال أهل العلم في مسألة جعل صداق المرأة عتقها:
فقد أشار إلى قول الجمهور بعدم الجواز لأن العتق ليس بمال إذ لا يمكن للمرأة هبته.
وأشار إلى قول أحمد وإسحاق ويعقوب بالجواز وذكر دليلهم وهو حديث أم المؤمنين صفية بني حيي، رضي الله عنها، وفيه أن النبي صلى الله عليه وعلى وآله وسلم تزوجها وجعل عتقها صداقها، وأجاب الأولون بأن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد اختصه الله، عز وجل، بجواز النكاح بلا مهر، ويرد على ذلك أن: الأصل عدم الاختصاص إذا لم يتعين، إذ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أصدق بقية نسائه، كما في حديث عمرو بن أمية الضمري، رضي الله عنه، لما بعثه إلى النجاشي، رحمه الله، في زواج أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان، رضي الله عنهما، وكان صداقها أربعمائة دينار. فالقول باطراد إصداقه نساءَه أولى من القول بالاختصاص إذ هو، كما تقدم، غير متعين. والله أعلم.
يقول القرطبي رحمه الله:
"وفي الآية، (أي: قوله تعالى: "وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا")، دليل على أن العتق لا يكون صداقا، لأنه ليس بمال، إذ لا يمكن المرأة هبته ولا الزوج أكله.
وبه قال مالك وأبو حنيفة وزفر ومحمد والشافعي.
وقال أحمد ابن حنبل وإسحاق ويعقوب: يكون صداقا ولا مهر لها غير العتق، على حديث صفية رواه الأئمة - أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها.
وروي عن أنس أنه فعله، وهو راوي حديث صفية. (والصحابي أعلم بمرويه، ففعله ما يوافق الحديث هو بمنزلة البيان العملي له، وفعله بخلافه يقدم عند بعض أهل العلم، وهم الأحناف رحمهم الله، فهو الأعلم بمرويه، وعند الجمهور: إذا تعارض فعله مع قوله قدم مرويه إذ العبرة بما روى لا بما رأى).
وأجاب الأولون بأن قالوا: لا حجة في حديث صفية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا في النكاح بأن يتزوج بغير صداق". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (5/ 23).
ومنه اختيار قول الأحناف والشافعية، رحمهم الله، في مسألة بلوغ الجارية الرشد، ليدفع إليها مالها إن كانت يتيمة فقد اختار المالكية، رحمهم الله، حصول الرشد بالنكاح، واختار الشافعية والأحناف: اختبار اليتيم ذكرا كان أو أنثى ليعلم تمام رشده الموجب دفع ماله له.
يقول القرطبي رحمه الله:
"إلا أن علماءنا شرطوا في الجارية، (في مسألة دفع المال لها)، دخول الزوج بها مع البلوغ، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد.
ولم يره أبو حنيفة والشافعي، ورأوا الاختبار في الذكر والأنثى .... وفرق علماؤنا بينهما بأن قالوا: الأنثى مخالفة للغلام لكونها محجوبة لا تعاني الأمور ولا تبرز لأجل البكارة فلذلك وقف فيها على وجود النكاح، فبه تفهم المقاصد كلها.
والذكر بخلافها، فإنه بتصرفه وملاقاته للناس من أول نشئه إلى بلوغه يحمل له الاختبار، ويكمل عقله بالبلوغ، فيحصل له الغرض.
¥