وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يسلم الراكب على الماشي وإذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم)، (وهو من مراسيل مالك رحمه الله).
قال علماؤنا: وهذا يدل على أن الواحد يكفي في الرد، لأنه لا يقال أجزأ عنهم إلا فيما قد وجب. والله أعلم.
قلت: هكذا تأول علماؤنا هذا الحديث وجعلوه حجة في جواز رد الواحد، وفيه قلق". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (5/ 260، 261).
وتتبع وجمع هذه الأمثلة يصلح موضوعا لبحث فقهي ثري إذ منها ما خالف القرطبي، رحمه الله، فيه إمام المذهب، رحمه الله، صراحة، ومنها ما اعتذر فيه عنه، ومنها ما خالف فيه علماء المذهب رحمهم الله .......... إلخ. والقرطبي، رحمه الله، علم من أعلام الفقه الإسلامي، بتجرده واختياراته الفقهية السديدة.
وكذلك كان حال أبي بكر بن العربي، رحمه الله، في تفسيره "أحكام القرآن"، فمن ذلك ما نقله عنه القرطبي، رحمه الله، في "جامعه" في مسألة الاستعاذة: هل تكون قبل القراءة أو بعدها؟، ونصه:
"ومن أغرب ما وجدناه قول مالك في المجموعة في تفسير هذه الآية: "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم". قال: ذلك بعد قراءة أم القرآن لمن قرأ في الصلاة، وهذا قول لم يرد به أثر، ولا يعضده نظر، فإن كان هذا كما قال بعض الناس: إن الاستعاذة بعد القراءة كان تخصيص ذلك بقراءة أم القرآن في الصلاة دعوى عريضة، ولا تشبه أصل مالك ولا فهمه، فالله أعلم بسر هذه الرواية". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 98).
فلم يمنعه ذكر هذه الرواية عن مالك، رحمه الله، من نقدها، وهو الذي شدد النكير قبلها على من تمسك بظاهر الآية، فقال بالاستعاذة بعد القراءة، وهم الظاهرية، رحمهم الله، فقال مستنكرا مقالتهم: "انتهى العي بقوم إلى أن قالوا: إذا فرغ القارئ من قراءة القرآن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم". اهـ
نقلا عن: "الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 97).
ومنه:
ما اعترض به على رواية ابن القاسم، رحمه الله، وهو من متقدمي المالكية، ومن قلده، في سقوط الطمأنينة في أركان الصلاة الفعلية، وهو قول الأحناف، رحمهم الله، الذين قالوا بوجوب الطمأنينة دون ركنيتها، فقال ناقضا تلك الرواية: "وقد تكاثرت الرواية عن ابن القاسم وغيره بوجوب الفصل وسقوط الطمأنينة وهو وهم عظيم لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها وعلمها.
فإن كان لابن القاسم عذر أن كان لم يطلع عليها فما لكم أنتم وقد انتهى العلم إليكم وقامت الحجة به عليكم". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 334).
وأشار القرطبي، رحمه الله، في نفس الموضع إلى الخلاف في مسألة الطمأنينة فقال:
"قال بعض علمائنا وغيرهم يكفي منها ما يسمى ركوعا وسجودا، وكذلك من القيام.
ولم يشترطوا الطمأنينة في ذلك فأخذوا بأقل الاسم في ذلك وكأنهم لم يسمعوا الأحاديث الثابتة في إلغاء الصلاة.
قال ابن عبد البر: ولا يجزي ركوع ولا سجود ولا وقوف بعد الركوع ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعا وواقفا وساجدا وجالسا.
وهو الصحيح في الأثر وعليه جمهور العلماء وأهل النظر وهي رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 334).
فاختار ما ذهب إليه أبو بكر بن العربي، رحمه الله، لموافقته الدليل الصحيح الصريح وهو حديث المسيء صلاته.
ثالثا: الاتجاه الأصولي:
وهو اتجاه مكمل للاتجاه السابق، فالأصول أدوات الفقيه في استنباط الأحكام من الأدلة، وتخريج الفروع على الأصول سواء أكانت: أصولا عامة تشترك فيها المذاهب كلها، أو أصولا خاصة بمذهب بعينه، فتكون الصورة صورة: تخريج فرع غير منصوص عليه على أصل من أصول إمام المذهب، وأما قياس المذهب فيكون: في فرع غير منصوص عليه بتخريجه على فرع آخر منصوص عليه.
بتصرف من: "الإشارات النافعات"، (1/ 88)، مقدمة المحقق.
ومن أبرز من صنف في هذا الاتجاه من المتقدمين:
الفخر الرازي، رحمه الله، المتوفى سنة 606 هـ، فقد كان، رحمه الله، من أئمة الأصول خاصة، والعلوم العقلية عامة، فضمن تفسيره من المباحث الفلسفية والعقلية ما ضمن، ومنها: المباحث الأصولية، التي ذكرها في ثنايا مسائل كتابه.
¥