"والمناسبة في اللغة: المقاربة وفلان يناسب فلانا أي يقرب منه ويشاكله ومنه النسيب الذى هو القريب المتصل كالأخوين وابن العم ونحوه وإن كانا متناسبين بمعنى رابط بينهما وهو القرابة ومنه المناسبة في العلة في باب القياس الوصف المقارب للحكم لأنه إذا حصلت مقاربته له ظن عند وجود ذلك الوصف وجود الحكم، (فالعلة من جهة مناسبتها للحكم: ملزوم يؤدي إلى لازمه، فيدور معه وجودا وعدما، فإذا وجدت العلة وجد الحكم، وإذا انتفت انتفى، وبعض أهل العلم يقول: العلة: فاعلية: تقوم مقام السبب أو العلة، وغائية: تقوم مقام المسَبَب أو المعلول، فالمناسبة بينهما: التلازم إذ لا انفكاك بينهما، كالسبب الكوني فإنه ملزوم مسبَبه، فالنار سبب الإحراق، وكالسبب الشرعي فهو، أيضا، ملزوم مسَببه، فملك النصاب سبب الزكاة ......... إلخ)، ولهذا قيل المناسبة أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول وكذلك المناسبة في فواتح الآي وخواتمها ومرجعها والله أعلم إلى معنى ما رابط بينهما عام أو خاص عقلي أو حسي أو خيالي وغير ذلك من أنواع العلاقات أو التلازم الذهني كالسبب والمسبَب، والعلة والمعلول والنظيرين والضدين ونحوه أو التلازم الخارجي كالمرتب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر.
وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء". اهـ
وأشار إليه أبو بكر بن العربي المالكي، رحمه الله، في "سراج المريدين" بقوله: "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم". اهـ
والمبالغة في هذا الفن مظنة التكلف بتحميل الآي ما لا تحتمل، وإلى ذلك أشار العز بن عبد السلام، رحمه الله، بقوله:
"المناسبة علم حسن ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر.
قال: ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا برباط ركيك يصان عنه حسن الحديث فضلا عن أحسنه فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة ولأسباب بعد مختلفة وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض إذ لا يحسن أن يرتبط تصرف الإله في خلقه وأحكامه بعضها ببعض مع اختلاف العلل والأسباب كتصرف الملوك والحكام والمفتين وتصرف الإنسان نفسه بأمور متوافقة ومتخالفة ومتضادة وليس لأحد أن يطلب ربط بعض تلك التصرفات مع بعض مع اختلافها في نفسها واختلاف أوقاتها". اهـ
وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
والمناسبات قد تكون من باب توكيد الجمل لفظا أو معنى، أو عطف المتلازمين، أو التذييل: لفظا أو معنى، أو الجمع بين المتقابلات إمعانا في البيان ............. إلخ وغالبها: مباحث بلاغية.
وقد تكون بمراعاة أحوال المخاطبين كما في قوله تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)
فذلك مما يلائم العربي الذي نزل عليه الوحي، فدعوته إلى تأمل ما تباشره الأنظار ليل نهار آكد من دعوته إلى تأمل ما لا يراه في بيئته الصحراوية
بتصرف من: "مباحث في علوم القرآن"، ص90.
وقد تكون المناسبة كما تقدم بين آي السورة الواحدة، كما في قوله تعالى في سورة القصص: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ)، فذكر من أمر موسى عليه السلام خروجه وتبرؤه من مظاهرة الكافرين ثم ختم السورة بذكر أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ)، وقبل ذلك البشرى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)، فكما عاد موسى عليه السلام إلى مصر فاستنقذ بني إسرائيل وأهلك الله عدوهم، فكذلك حالك فالعاقبة لك في الأولى والآخرة، ورجوعك إلى مكة ظاهرا بعد أن أخرجك أهلها منها واقع لا محالة، مصداق قوله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ
¥