وَكَيْفَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَرَاءَهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَإِنْ سَهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ رُدَّ إِلَى السُّنَّةِ". اهـ
وهذا من أدلة من عمل بخبر الواحد كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
ومن مسائل هذا الباب:
زنا المسلم في دار الحرب، وهو أمر عمت به البلوى في هذا الزمان، فإليه أشار القرطبي، رحمه الله، بقوله:
"حرم الله تعالى الزنا في كتابه، فحيثما زنى الرجل فعليه الحد. وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور. وقال أصحاب الرأي في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرب بأمان وزنى هنالك ثم خرج لم يحد.
قال ابن المنذر: دار الحرب ودار الإسلام سواء، ومن زنى فعليه الحد على ظاهر قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (12/ 142).
وهذا أصل مطرد عند أبي حنيفة، رحمه الله، في عدم سريان أحكام الشريعة في دار الحرب، فلا ربا عنده في دار الحرب، استدلالا بحديث مكحول، رحمه الله، مرفوعا: (لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب)، يقول النووي، رحمه الله، في "المجموع":
"والجواب عن حديث مكحول: أنه مرسل ضعيف فلا حجة فيه ولو صح لتأولناه على أن معناه لا يباح الربا في دار الحرب جمعا بين الأدلة". اهـ
فلو صح الحديث لحملت: "لا" على أنها: نافية، بمعنى: الناهية، فيكون السياق: خبرا أريد به الإنشاء، فظاهره الخبر، وتأويله: النهي عن التعامل بالربا في دار الحرب، وهذا أبلغ في الدلالة على النهي، لأنه جاء بصيغة الخبر، فكأنه صار أمرا واقعا لا جدال فيه، فنزل منزلة الخبر الإبتدائي الخالي من المؤكدات، ومنه:
قوله تعالى: (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)، فإن قصد بها:
الكلمات الكونية: فهي خبر، على أصله، لأنه لا مبدل لقضاء الله وقدره، فما شاءه كونا واقع لا محالة.
وإن قصد بها: الكلمات الشرعية: فهي خبر أريد به الإنشاء، تأويله: لا تبدلوا كلمات الله الشرعية بتحريف ألفاظها أو معانيها أو تعطيل أحكامها.
وبهذا تنتهي: (الآية: 2)، ولله الحمد والمنة.
والله أعلى وأعلم.
يتبع إن شاء الله.
ـ[مهاجر]ــــــــ[03 - 09 - 2008, 06:23 ص]ـ
ومع:
قوله تعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ):
يقول ابن كثير رحمه الله:
"هذا خَبَر من الله تعالى بأن الزاني لا يَطأ إلا زانية أو مشركة. أي: لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة، لا ترى حرمة ذلك، وكذلك: {الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ} أي: عاص بزناه، {أَوْ مُشْرِكٌ} لا يعتقد تحريمه".
فالمقصود بالنكاح هنا: الجماع، كما أثر عن ابن عباس، رضي الله عنهما، والنكاح في اللغة: الضم، وفي الاصطلاح: إما أن يطلق على العقد، فيقال: نكح فلان فلانة، أي عقد عليها وإن لم يطأها، وإما أن يطلق على الوطء، فيقال: نكح الرجل زوجه، إذا كان الوطء حلالا، أو: نكح الزاني الزانيةَ إذا كان حراما، كما في هذه الآية، فالاصطلاح: حقيقة لغوية مقيدة، لأن الحقائق الثلاثة تشترك في معنى الضم الكلي، اشتراكا معنويا، ولكن الحقيقة اللغوية تدل على مطلق الضم دون تقييد، وإنما يأتي التقييد بالسياق الذي يدل على صورة بعينها، فيقال: تناكحت الأغصان إذا انضم بعضها إلى بعض، فَقُيِد الضم بحقيقة انضمام الأغصان، وهي أمر له وجود خارج الذهن، بينما النكاح بمعنى العقد: حقيقة شرعية، تشترك مع الحقيقة اللغوية في انضمام الإيجاب والقبول في العقد، والنكاح بمعنى الجماع: حقيقة عرفية في الفعل المعهود، لأن الانضمام واقع فيه، أيضا، ولكنه انضمام جسدي مادي، بخلاف العقد، فالانضمام فيه معنوي، فاختلف المدلولان، تبعا للسياق الذي يردان فيه، وإن اشتركا في المعنى الكلي، فالسياق هو الذي يحدد المعنى المراد، والسياق في هذه الآية يدل على معنى الوطء، لأن الخبر عُلِق بوصف الزنا في اسمي الفاعل المشتقين: "الزاني" و "الزانية"، وحقيقة الزنا: الوطء بالأجساد، ومن هنا ذهب من ذهب من أهل العلم إلى نفي وقوع المجاز في
¥