والجمل هنا: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً): وهي إنشائية، و: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا): وهي إنشائية أيضا، و: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ): وهي خبرية، ولعل هذا مما يؤيد قول أبي حنيفة، رحمه الله، لأنه أعاد الاستثناء على الجملة الأخيرة فقط، فلقائل أن يقول: إن اختلاف الجملتين الأخيرتين: خبرا وإنشاء، مانع من اشتراكهما في حكم الاستثناء الواقع بعدهما).
ويواصل القرطبي، رحمه الله، فيقول:
السبب الثاني: يشبه الاستثناء بالشرط في عوده إلى الجمل المتقدمة، فإنه يعود إلى جميعها عند الفقهاء، أو لا يشبه به، لأنه من باب القياس في اللغة وهو فاسد على ما يعرف في أصول الفقه. (فالإجماع حاصل على رجوع الشرط على الجمل المتقدمة قبله في نحو: أدخل زيدا الدار وأطعمه واكسه وأعطه درهما إن جاء، فيعود الشرط على كل ما تقدم، وكذا في الغاية، فإنها ترجع إلى الجمل المتقدمة في نحو: أنفق على زيد وأطعمه واكسه حتى يبلغ الحلم، فتعود الغاية على كل ما تقدم، والاستثناء أو الشرط أو الغاية بعد كل جملة عي ولكنة، فلو قيل في غير القرآن الكريم: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِين جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، إلا الذين تابوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إلا الذين تابوا، ولو قيل: أدخل زيدا الدار، إن جاء، وأطعمه، إن جاء، واكسه، إن جاء، وأعطه درهما إن جاء، ولو قيل: أنفق على زيد، حتى يبلغ الحلم، وأطعمه، حتى يبلغ الحلم، واكسه حتى يبلغ الحلم، لعد ذلك تطويلا معيبا، يتنزه عنه آحاد الفصحاء، فكيف برب العالمين؟!!!، وقد علم من استقراء كلام العرب في هذه المواضع أنهم يكتفون بقيد واحد فيثبتون ويحذفون اتكالا على المثبت كما في قول قيس بن الحطيم:
نحن بما عندنا وأنت بما ******* عندك راض والرأي مختلف
فهذا البيت من شواهد النحاة على جواز حذف الخبر إذا دل عليه السياق، فتقدير الكلام: نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، وإن كان هذا خلاف الأصل، فحذف المتأخر لدلالة المتقدم عليه هو الأصل، لأن تقدم ذكره يسوغ حذفه لسبق الإشارة إليه.
وقول الآخر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ******* بريئا ومن أجل الطوى رماني.
فتقدير الكلام: رماني بأمر كنت منه بريئا وكان منه والدي بريئا.
بتصرف من "مذكرة في أصول الفقه"، ص275، 276، 280).
ويواصل القرطبي، رحمه الله، فيقول:
"وقال الشعبي للمخالف في هذه المسألة: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته! ثم إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام من الأصوليين فقوله: "وأولئك هم الفاسقون" تعليل لا جملة مستقلة بنفسها، أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم؟.
ثم توبة القاذف إكذابه نفسه، كما قال عمر لقذفة المغيرة بحضرة الصحابة من غير نكير، مع إشاعة القضية وشهرتها من البصرة إلى الحجاز وغير ذلك من الأقطار. (فينزل منزلة الإجماع السكوتي وقد وقع في الزمن الأول حيث أمكن ضبط الإجماع بخلاف الأزمان التالية التي انتشر فيها الخلاف بتعدد المجتهدين وتعذر حصر أعيانهم لمعرفة أقوالهم)، ولو كان تأويل الآية ما تأوله الكوفيون، (أي: أبو حنيفة، رحمه الله، وأصحابه)، لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر: لا يجوز قبول توبة القاذف أبدا، ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب، فسقط قولهم، والله المستعان". اهـ
بتصرف يسير من "الجامع لأحكام القرآن"، (12/ 150).
فلو كان كلام الكوفيين راجحا في هذا الخلاف، لما خفي على الصحابة، رضي الله عنهم، وهم أعلم بلغة الوحي ومقاصده من كل من جاء بعدهم، وقد تقرر في الأصول أنه: "لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة"، فلو كان البيان في كلام الكوفيين لسبقهم إليه الصحابة، رضي الله عنهم، فلما سكتوا عن قبول عمر، رضي الله عنه، لشهادة من تاب من قذفة المغيرة، رضي الله عنه، صار سكوتهم إقرارا بصحة فعله، و: "السكوت في موضع البيان بيان" كما قرر الأصوليون.
فالحاصل أن الكل مجمع على:
¥