وقد تقرر في الأصول أن: "دخول صورة السبب في عموم اللفظ قطعية"، فلا تخرج بتخصيص أو قياس، فلا يقال بأن عموم قبول التوبة في الآية الأولى مخصص لصورة عائشة، رضي الله عنها، في الآية الثانية، لأنها صورة السبب الذي نزلت الآية الثانية فيها، فدخولها فيها قطعي، فلا يخرج بتخصيص عمومها بعموم قبول التوبة في الآية الأولى، وقد دخلت معها أمهات المؤمنين، رضي الله عنهن، على التفصيل السابق، فلا يخرج قاذفهن بعموم قبول التوبة في الآية الأولى.
ولهذا ذكر مالك، رحمه الله، أن ساب عائشة، رضي الله عنها، إن سبها بما برأها الله، عز وجل، منه، فهو كافر، وإن سبها بغير ذلك، فهو فاسق يؤدب، وإلى هذا أشار القرطبي، رحمه الله، بقوله:
"قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول: من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل لأن الله تعالى يقول: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل.
قال ابن العربي: قال أصحاب الشافعي من سب عائشة رضي الله عنها أدب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} في عائشة لأن ذلك كفر، وإنما هو كما قال عليه السلام: "لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه". ولو كان سلب الإيمان في سب من سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" حقيقة. قلنا: ليس كما زعمتم، فإن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى فكل من سبها بما برأها الله منه مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر، فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر. ولو أن رجلا سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (12/ 169، 170).
وقد ذكر، شيخ الإسلام، رحمه الله، في آخر "الصارم المسلول" تفصيلا لحكم ساب الصحابة، رضي الله عنهم، من أهل البدع، فقال:
"وأما من سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم.
وأما من لعن وقبح مطلقا فهذا محل الخلاف فيهم لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد. (وهذا ضابط مهم في مسألة اللعن، فإن من لعنهم لأجل اعتقادهم، أو لأجل نصرتهم الدين وقضاءهم على ملل المشركين، كما هو حال كثير من الزنادقة المتسترين بثوب الإسلام كالباطنية ومن لف لفهم، من لعنهم لأجل ذلك فهو كافر زنديق، بخلاف من لعنهم أو سبهم غيظا، كمن يسب أحدهم لأنه اقتص منه إن كان أميرا أو قاضيا، أو قتل أباه أو أخاه في فتنة كفتنة الجمل وصفين ........... إلخ من الأمور الشخصية التي لا تتعلق بأصل الملة، فهذا لا يكفر، وإن كان مستحقا للتعزير والتأديب).
ويواصل ابن تيمية، رحمه الله، فيقول:
وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضا في كفره فإنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى عنهم والثناء عليهم بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق وأن هذه الأمة التي هي: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وخيرها هو القرن الأول كان عامتهم كفارا أو فساقا ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ولهذا تجد عامة من ظهر عنه شيء من هذه الأقوال فإنه يتبين أنه زنديق وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم وقد ظهرت لله فيهم مثلات وتواتر النقل بأن وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات وجمع العلماء ما بلغهم في ذلك وممن صنف فيه الحافظ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابه في النهي عن سب الأصحاب وما جاء فيه من الإثم والعقاب.
وبالجملة فمن أصناف السابة من لا ريب في كفره ومنهم من لا يحكم بكفره ومنهم من يتردد فيه". اهـ
"الصارم المسلول"، ص 406، 407.
فيفرق، كما تقدم، بين من سب: سب غيظ، ومن سب: سب اعتقاد، وهذا فارق دقيق في الحكم على مرتكب هذه الكبيرة، ولهذا لم يكفر أهل العلم: النواصب الذين أبغضوا عليا، رضي الله عنه، وآل بيته، وناصبوهم العداء، وأظهروا سبهم، مع تلبسهم بهذه البدعة القبيحة، لأن بغضهم لم يكن من جهة دينه: ككونه، رضي الله عنه، من السابقين الأولين، أو كونه من العشرة المبشرين، وإنما كان من جهة دنيوية: وهي ما أوقعه علي، رضي الله عنه، بهم من مقتلة عظيمة يوم صفين، فظهرت بدعة النصب أول ما ظهرت في بلاد الشام التي قاتل علي، رضي الله عنه، أهلها في صفين، ولو كان بغضهم له من جهة دينية لكفروا بذلك، كما كفر من يسب الشيخين: أبا بكر وعمر، رضي الله عنهما، على جهة التدين بذلك، طاعنا في دينهم، فالأولون لم يطعنوا في الدين، والآخرون طعنوا في دين من تواترت النصوص في تزكيتهم، بل وجعلوا ذلك من القرب التي يثاب فاعلها!!!!.
على أنه يتوقف في تكفير آحادهم، لاسيما عامتهم، فلا يكفرون بأعيانهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم، وهذا أمر لا يقوم به إلا من أوتي علما وبيانا، بحيث تزول بحجته كل شبهة، فإن أنكر الساب، أو أظهر التوبة، قبلت منه ووُكل أمره الله عز وجل.
والله أعلى وأعلم.
وبهذا ينتهي تفسير: (الآية: 4، 5)، ولله الحمد والمنة.
يتبع إن شاء الله.
¥