والسند في الواقعتين واحد: سعيد وعروة وعبيد وعلقمة بن وقاص عن عائشة، مع اختلاف السائل، فهو في الأولى: الوليد بن عبد الملك، وفي الثانية: هشام بن عبد الملك، ولا مانع عقلا من تكرار السؤال في واقعتين مختلفتين.
وفي "تاريخ الطبري":
ولما ظهر علي، رضي الله عنه، يوم الجمل جاء إلى أم المؤمنين رضي الله عنها، فقال: "غفر الله لك"، قالت: "ولك، ما أردت إلا الإصلاح". اهـ بتصرف.
وصدقت رضي الله عنها، فما خرجت إلا رجاء الإصلاح بين المؤمنين، ولم يكن في خروجها أي مخالفة شرعية، إذ خرجت برفقة محرمها: "عبد الله بن الزبير"، رضي الله عنهما، ابن اختها أسماء ذات النطاقين، رضي الله عنها، ولم تتبذل، أو تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، وإنما سارت في هودجها، كالملكة المصونة لا يطلع عليها أحد من الجيش إلا من جاز له ذلك من محرم أو جارية ........... إلخ، وما كان القوم ليهتكوا ستر أمهم.
وفي موضع آخر من تاريخ الطبري:
"أن عليا، رضي الله عنه، أنزلها بعد ذلك، دار عبد الله بن خلف، وهي أعظم دار في البصرة على سنية بنت الحارث أم طلحة الطلحات، وزارها ورحبت به وبايعته وجلس عندها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين إن بالباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر القعقاع بن عمرو أن يجلد كلا منهما مئة جلدة وأن يجردهما من ثيابهما ففعل. (وهذا فعله، رضي الله عنه، مع من نال منها، فكيف بمن قذفها بما برأها الله، عز وجل، منه ممن يدعي موالاته من أهل البدع في زماننا).
ولما أرادت الخروج من البصرة بعث إليها بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وأرسل معها أربعين امرأة وسير معها أخاها محمدا.
ولما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي، رضي الله عنه، فوقف على الباب وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم، وقالت: "يا بني لا يغتب بعضكم بعضا، إنه والله ما كان بيني وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه من الأخيار"، فقال علي رضي الله عنه: "صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة"، ثم سار معها مودعا أميالا وسرح بيته معها بقية ذلك اليوم.
وفي هذا أبلغ رد على أهل الأهواء الذين طعنوا في أم المؤمنين، رضي الله عنها، لمرض في قلوبهم، فاستندوا إلى حادثة الإفك تقريرا لباطلهم.
بتصرف واسع نقلا عن "العواصم من القواصم"، طبعة "مكتبة السنة"، ص 128، 129. من تعليقات الشيخ: محمود مهدي الإستانبولي.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وأما الحديث الذي رواه، (أي: صاحب: "منهاج الكرامة")، وهو قوله لها: تقاتلين عليا وأنت ظالمة له، فهذا لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا له إسناد معروف وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة بل هو كذب قطعا فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها.
وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال فندم طلحة والزبير وعلي رضي الله عنهم أجمعين ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير وقصدوا الاتفاق على المصلحة وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة وكان علي غير راض بقتل عثمان ولا معينا عليه كما كان يحلف فيقول: "والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله"، وهو الصادق البار في يمينه، فخشي القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة فحملوا على عسكر طلحة والزبير فظن طلحة والزبير أن عليا حمل عليهم فحملوا دفعا عن أنفسهم فظن على أنهم حملوا عليه فحمل دفعا عن نفسه فوقعت الفتنة بغير اختيارهم وعائشة رضي الله عنها راكبة لا قاتلت ولا أمرت بالقتال هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار". اهـ
"منهاج السنة"، (4/ 316، 317).
¥